منزلة ليلة القدر ، يبين لنا الرسول الكريم أن قيامها سبيلٌ رئيسٌ لنيل المغفرة والرحمة ، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم) : " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " ، ولأجل ذلك نبّه (صلى الله عليه وسلم) على عظيم خسارة مَنْ لم يغتنم فضل هذه الليلة ، فقال : "إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ" .
أسباب التسمية
قال الحافظ ابن حجر : وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْقَدْرِ الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ اللَّيْلَةُ ، فَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ " ، وَيكون الْمَعْنَى أَنَّهَا ذَاتُ قَدْرٍ ؛ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهَا ، أَوْ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ ، أَوْ لِمَا يَنْزِلُ فِيهَا مِنَ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ ، أَوْ أَنَّ الَّذِي يُحْيِيهَا يَصِيرُ ذَا قَدْرٍ .
وَقِيلَ : الْقَدْرُ هُنَا التَّضْيِيقُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ"، وَمَعْنَى التَّضْيِيقِ فِيهَا : إِخْفَاؤُهَا عَنِ الْعِلْمِ بِتَعْيِينِهَا، أَوْ لِأَنَّ الْأَرْضَ تَضِيقُ فِيهَا عَنِ الْمَلَائِكَةِ الذين يؤمنون على دعاء المؤمنين فيها.
وَقِيلَ : الْقَدْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْقَدَرِ (بِفَتْحِ الدَّالِ الَّذِي هُوَ مُؤَاخِي الْقَضَاءِ) ، وَيكون الْمَعْنَى : أَنَّهُ يُقَدَّرُ فِيهَا أَحْكَامُ تِلْكَ السَّنَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ " .
الأعمال في ليلة القدر
ويستحب أن يجتهد المسلم فيها بالدعاء والقيام ، اما الدعاء فيدعو بما ورد عن عائشة (رضي الله عنها) أنها قالت : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَدْعُو؟ قَالَ: "تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" ,
وأما القيام ، فقد مدح الله (عز وجل) المؤمنين الذين يحيون الليل بما لم يمدح به غيرهم ؛ مرغبًا في قيام الليل ، ومشيرًا إلى ما يلحق صاحبه من شرف عظيم ،قال تعالى : " تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " .
وقد اختص الله تعالى ساعات الليل الأخيرة بكثرة النفحات الإلهية ، ونسمات القرب المباركة التي تحي القلوب ،وتنعش الأرواح ، ووعد من يحييها بالرضوان من الله (عز وجل) وجزيل الثواب ، سواء أحياها بالصلاة أم بالدعاء أم بالاستغفار أم بالصلاة على سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، أم بالتسبيح ، أم بأي نوع من أنواع العبادة والذكر ، قال تعالى : " وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا " ، ثمذكر جزاءهم بقوله تعالى :" أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا" .
وقال النبي (صلى الله عليه وسلم)مرغبًا في الدعاء ومناجاة الله في ساعات الليل : " إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ" ، فمن باب أولى استثمار هذا الوقت في ليلة القدر .
وقد قال بعض العلماء إذا قال الله في القرآن الكريم : وما أدراك، فقد أدراك. أي أنه عز وجل أعطاك بعض المعلومات التي تتعلق بسياق المتحدَّث عنه ، وعن ليلة القدر قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) لنتأمل معاني الفضل في خيرية الطاعات فيها من العبادة في الف سهر ليس فيها ليلة القدر ، ولنتأمل تنزل الملائكة فيها بالدعاء لنا والتأمين على دعائنا ، ولنتأمل أنها سلام من كل سوء ومكروه .