في اليوم التالي لاغتيال الدكتور فرج فودة، اتصل بي الزميل هشام الزيني وكنت قد عدت إلى المنزل قرب الفجر بعد ليلة مشحونة تاركا مهمة المتابعة لمن سيتم تكليفه ووقع الاختيار على الزينى وكان واحدا من أنشط محررى الحوادث والقضايا قبل أن تخطفه صحافة عالم السيارات ليصبح واحدا من روادها فيما بعد:
ــ أنت لسه نايم؟!.. هكذا بادرنى هشام
ــ أنا وصلت البيت الفجر زي ما أنت عارف
ــ طيب فوق كده وانزل حالا أنا منتظرك لأنى رايح أتابع تحقيقات النيابة في مدينة نصر
ــ ماشي يا عم هشام.. بس أنا ما كملتش ساعتين نوم على بعض
ــ بقولك انزل.. دي قضيتك لأنك صاحب الخبر الأول فيها
ولم يكن أمامى إلا أن أنزل مسرعا، وقد علمت أن الأستاذ إبراهيم نافع رحمه الله غضب غضبا شديدا بسبب أن مسئولي السهرة الماضية في الجريدة لم ينشروا كل الصور ولا كل المعلومات وكل ما تم تخصيصه ربع صفحة أو يزيد قليلا.
لكن الأهرام المسائي أفرد صفحتين كاملتين غير ما نشر بالصفحة الأولى وكنت قد عرفت بذلك قبل مغادرتى الجريدة، فكل الصفحات في الأهرام كانت مكتظة بالإعلانات ولم يكن من سبيل لتدبير مساحة على حسابها وبذل الأستاذ محمد باشا رحمه الله، وكان مساعدا لرئيس التحرير وحضر من منزله في ساعة متأخرة، مجهودا خارقا لتدبير هذه المساحة وكان حزينا لضيق الوقت والمساحات عن استيعاب هذا الحدث في الطبعتين الثانية والثالثة من الأهرام.
لكن مازالت الفرصة قائمة. فالكثير من المعلومات والصور لم تنشر بالإضافة إلى متابعة التحقيقات وكان لابد أن ننفرد بشيء له قيمة لتعويض مما أفسدته المساحة الضيقة.
وفي الطريق رحت أراجع ما أتذكره عن فرج فودة ولم تكن له شهرة كبيرة ولكن مقالاته في الصحف والمجلات كانت قد بدأت تحدث جدلا كبيرا وكان مشهورا بأنه "علمانى متطرف" شديد العداوة للتيارات الإسلامية أو التى ألصقت نفسها بالإسلام لتسطو عليه وتنزعه من الغالبية لتستأثر هي وحدها بالدين وتكون صاحبة الكلمة العليا فلا إيمان ولا كفر إلا من خلالها.
هذه الجماعات هي التى قتلت فرج فودة لتتخلص من إزعاجه لها بحجة اعتدائه على الدين والمقدسات وسخريته من رموز الإسلام وعلماء الأمة فاستحق توقيع حد الردة لكفره البواح؟!
لكن.. عذرا هل كان فرج فودة ملحدا؟!
هل دعا لهدم قواعد الإسلام الأساسية أو سب مقدساته أو سخر من رموزه؟!
بإجابة قاطعة "لا".. ذلك حسب علمى ورؤيتى الشخصية وإلا فأنا أيضا فرج فودة!
أذكر أنه كانت أول مرة أراه فيها في مقر حزب الوفد بالمنيرة كان يرتدى بدلة سفارى بكم "شيك جدا" وتحت الجاكيت المفتوح تيشيرت شبابي وكانت سوالف شعره على الموضة ومبتسما ابتسامة هادئة في بشاشة لم تكن تفارق وجهه وفوق كل ذلك كان يسمك بيده "سبحة"! - آه وربنا سبحة مثله- مثل أي واحد "متدين" أو "قال يعنى متدين" وبدون أى شك أو تشكيك في عقيدته وليس لى ولا لك في هذا أي حق، فقد تيقنت ساعتها أنه ذكى جدا، فالسبحة التى رأيته يمسك بها لها دلالة أكبر من هذه التسطح.
ومرة أخرى وكان ذلك في فاعلية سياسية في نقابة المحامين على ما أظن حضرتها أنا وصديقي رمضان حسن، زعيم التيار الناصري في كلية الآداب جامعة عين شمس، رأيناه بالسبحة نفسها وناقشنا معا سبحة الدكتور فرج على عد خطوات منه واتفقنا على أنها "حركة صايعة" وهو وصف يعنى بلغة الشباب يستحق الإشادة فهو رسالة إلى الجميع بأن العلمانى ليس بالضرورة ضد الدين.
ثم إن كل كتب فرج فودة التى قرأتها كان منهاجها الأساسي هو إزالة الشبهة التى تتلبس البعض بالخلط ما بين هذه الجماعات وبين الدين.. يعنى.. من الممكن أن ترى فرج فودة مدافعا عن الإسلام!.
ــ لا يا شيخ!!.
وربنا "زي ما بقولك كده".. فهل تشارك الإخوة الإرهابيين فكرة خروج الأخ فرج من الملة؟!
ومن الآخر فالصورة التى أراها مزيفة وتلتصق بالإسلام التصاقا بلا أدنى شك لدي، هي صورة رجل الدين أو الكاهن أو الأمير، فهذه الصور هي بعينها البدع الحقيقية التى ألصقت بالإسلام، فهذه النحنحة وزم الشفتين والزفرة الغاضبة مع تقطيب الجبين والتكشيرة التى تقطع الخميرة من البيت زائد الضحكة الصفراء "المدهننة" المميزة لوجوه الإخوة المنتشرين كالجراد ما بين الجوامع والشوارع، كل هذا باختصار شغل "نصب".
فسبحة فرج فودة تؤكد أنه يعترف بالدين ركيزة اجتماعية لا غنى عنها ولكن ليس بتلك الصورة القميئة التى سيطرت على هيئة المتدين حتى التصقت بالدين ولعله كان يغيظهم بها وهو يقول لن أترك الدين فريسة لكم حتى لو لم يكن من مظاهر التدين سوى هذه السبحة!، فإن فرج فودة لو حملها خوفا من رصاصهم لما صار بلا حراسة رغم توقع قتله في أي لحظة.
وعلى فكرة كثير من تلكم الجماعات ترى في السبحة "بدعة" رغم إجازتها فقها، إلا أنهم "بَدَّعُوا" كل شيء في الحياة إلا ما أتوه هم من بدع أخطرها صك بدعة "إسلاميين" كبديل عن "مسلمين" وليس بدعة فقط، لكن فرية بينة ما أنزل الله بها من سلطان!.
فسبحة الدكتور فرج "وهذا التفكير بالتأكيد سيغيظ الإخوة العلمانيين بالضبط كما الإخوة الإسلامنيين" بها من الدلالات الكثير، فالدين مكون أساس للشخصية الإنسانية عامة والمصرية خاصة، حتى الملحدين والعلمانيين المتطرفين ستجدهم يعتنقون أفكارهم بطريقة "الإسلامنيين" نفسها ولا يغرنك اختلاف الهيئة فقد تشابهوا في السنحة والمظهر فلا أدرى ما علاقة الضفيرة الرجالي أو فلفة الشعر، بفكرة الإلحاد؟!، فتراهم في تجمعاتهم يحرصون على طقوس وألفاظ كأنها أوراد في حضرة طريقة صوفية.
المهم.. لم يكن فرج فودة ملحدا ولا صدر منه ما يشير إلى ذلك، فهو وإن كان مزودها حبتين تلاتة، خصوصا في تناوله لتاريخ الصراعات بين الطوائف والفرق في كتابه الحقيقة الغائبة -ولهذا مجال آخر سأتناوله إن شاء الله قريبا- إلا أن هجومه هذا لا يطعن في انتمائه الديني وإلا فأنت مضطر لتكفير المتقاتلين أنفسهم قبل تكفير من يحنق على قتالهم!.
لكنى أسمعك وأنت تسألنى بنفس درجة الحنق سواء كنت علمانيا أو إسلامانيا: وما دليلك على أنه لم يكن ملحدا؟!
سأفحمك ولن أجيبك لأنه من السذاجة أن أتردى معك لمثل هذا الطرح الهزلي.
ستقول لي أن "جبهة علماء الأزهر" أصدرت بيانا بتكفيره وهنا أستطيع أن أقرر لك يا سيدي حقيقة قد لا تعرفها "أو تعرفها وبتستعبط" فجبهة علماء الأزهر ليست من هيئات أو قطاعات الأزهر الشريف، إنما هي جمعية كونها عدد من خرجي الأزهر في أواخر أربعينيات القرن العشرين، تماما مثل "العاملون بالكتاب والسنة" و"أبناء قنا في إمبابة" يعنى أعضاء واشتراكات وترخيص من الشئون الاجتماعية ورقم/ رقم وخلاص.. بقت جمعية.
وهنا لا أسخر منها لا سمح الله – أحسن تهفنا بيان تكفير جديد- ففي البداية كان غرضها شريفا وبها معتدلون همهم الأول الدفاع عن مبادئ الأزهر ولكن في فترات تالية، استولى عليها متشددون لأسباب مذهبية أو تنافسية "حاكم الأزهر زيه زي أى حتة في البلد" ودخلوا في قضايا مع الشيخ محمد طنطاوى رحمه الله وفي النهاية، بيانهم من الناحية الشرعية الفقهية "يبلوه ويشربوا ميته"!.
ولكن هناك جريدة اسمها "النور" صاحبها اسمه الحمزة دعبس سلفى شكلا ومضمونا والله يرحمه نصب نفسه فارس الديار حامي الذمار وكانت له آراء عجيبة فهو على ما أعتقد أول واحد أقرأ له مقالا يدافع فيه عن الخديوي توفيق متهما عرابي بأنه ماسونى خالف وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن خير الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر لأن عرابي لم يقل الكلمة ولجأ للتمرد والعصيان!.
وكان في الجريدة أقلام تشعلها معارك على أعداء الدين تعاضدها جريدة الشعب التى سطا عليها الإخوان بعد استيلائهم على حزب العمل صاحب الجريدة عقب التحالف اللقيط بينهما، حيث نجحوا فيما فشلوا فيه مع الوفد قبلها.
ولذلك لم تعدم الجماعات فرصة العثور على شباب ممكن يقتلوا فرج فودة.
وها نحن في طريقنا الآن إلى واحد منهم محبوس بقسم مدينة نصر ولكن كانت التعليمات مشددة بمنع الصحفيين من مقابلة قاتل فرج فودة وكنا علمنا أن نيابة أمن الدولة ستتولى القضية وقد تفشل مهمتنا!.
ولكن ربك لما يكرم، فإذا بمعاون مباحث اسمه هشام على صلة صداقة وطيدة بالأستاذ هشام الزيني يهمس له بأن يحيى خشبة مدير النيابة يحقق مع المتهم وأنه قد يقوم بمعاينة تصويرية قبل تسليم القضية لنيابة أمن الدولة ودخل هشام إلى وكيل النيابة وانتظرت أنا مع المصور في السيارة وفوجئت بهشام ومدير النيابة يخرجان معا ومعهما المتهم الذي تم تقييده بكلبش مع ملازم أول اسمه "... صبري" من قسم مدينة نصر، فأومأ لى هشام فتسللت مع المصور إليهم وكان كتفه بكتف المتهم طوال المعاينة التى تمت خطوة بخطوة في الأماكن نفسها التى شهدت الأحداث بداية من نزوله من الموتوسيكل مع زميله الهارب وإطلاق النار على الدكتور فرج وهروبهما ومطاردة السائق وهو البطل الحقيقي في الأحداث وحتى صدمهما بالسيارة وكانت شديدة واضحة الأثر على أحد جانبي مقدمتها المحطم وفوجئت بأن السيارة قد دارت فور ركوب سائق الدكتور فرج لتشغيلها وهنا لا أدرى ما الذي جعلنى أتعجب من أنها دارت فإذا بهشام يجيب بتلقائية: "طبعا دي فولفو".. ثم استدرك مندهشا: يعنى هو ده بس اللي أثار اهتمامك؟!.
بالطبع هذا ما أثار اهتمامى وربما لم أدرك ساعتها أن الصناعة المتقنة لا توقفها صدمة حتى لو بدت محطمة!
ومضينا بجوار المتهم نتخطف معه الحديث بعد أن تمكن الزينى من إقناعه بالرد على أسئلتنا.. كيف؟!
هذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله.