قال الدكتور على جمعة، مفتي الجمهورية السابق، عضو هيئة كبار العلماء، إن شهر رمضان له نفحات، والنبي- صلى الله عليه وسلم- نصحنا أن نتعرض لنفحات ربنا في أيام دهرنا، مستشهدًا بما رواه الطبراني في الكبير: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا".
وأوضح "جمعة" في برنامجه "رمضان يحمينا"، بالتعاون مع وزارة الصحة والسكان، أن البرنامج الذي يمكن القيام به للتعرض لهذه النفحات، يتمثل في عدة أمور، أولاها: الذكر، قال- تعالى-: "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ"، ( سورة البقرة: الآية ١٥٢)، وقوله أيضًا: "وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"، (سورة الأنفال: الآية ٤٥).
وأضاف عضو هيئة كبار العلماء أن ثاني الأمور لنيل نفحات رمضان: قراءة القرآن وتدبره، لافتًا: أن جبريل- عليه السلام- كان ينزل بالقرآن كل عام في رمضان إلا في العام الأخير من حياة المصطفى - صلى الله عليه وسلم- فعرضه عليه مرتين، ومن هنا أخذ المسلمون استحباب ختم القرآن في رمضان قراءة وتدبرًا وسماعًا.
وتابع المفتي السابق أن الأمر الثالث هو: التمسك بالفرائض في أوقاتها مع النوافل، والأمر الرابع هو: كثرة الأنفاق، مستندًا بأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان.
وواصل الدكتور على جمعة أن الأمر الخامس هو: فعل الخيرات؛ لقوله - تعالى-: "وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"، (سورة الحج: الآية 77)، والأمر السادس هو: نفع الناس والقيام على خدمتهم.
وأشار إلى أن ما نحن فيه من أزمة فيروس كورونا ما هو إلا تذكير لنعم الله علينا، وينبغي لنا التمسك بهذه البرامج الإيمانية لتجديد الحياة مع الله بمفاهيم جديدة وبداية جديدة للإلتزام.
أولى خطوات التقرب إلى الله
وأفاد الدكتور على جمعة، مفتى الجمهورية السابق، عضو هئية كبار العلماء، أن أولى خطوات التقرب إلى الله والسير إليه – تعالى- التوبة، ومعناها أن ينخلع من المعاصي، وأن يعاهد نفسه على أن يترك المعاصي، وأن يعطل ملك السيئات - أي يجعل ملك السيئات لا يكتب عليه شيئًا-.
وبين «جمعة» في منشور له على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» أن هذا الانخلاع له درجات، أولها: انخلاع من المعصية، وهي التي يقول عنها الشرع: إن هذا حرام؛ فالانسان قرر مع نفسه ألا يفعل هذا الحرام.
وذكر عضو هيئة كبار العلماء أن ثاني درجات الانخلاع عن المعاصي والرجوع إلى الله: هو البعد عن كل ما يشغل البال أو القلب عن الله من ولد أو المال أو حب للأكوان وللسلطة وللجاه وللشهوات.
ونبه المفتي السابق أن الإنسان هنا لم يرتكب حراما لكي يتوب منه، فهو قد تركه، لكنه الآن يتوب من شيء آخر، يتوب من الانشغال عن الله! وكأن الانشغال عن الله- وهو أمر يقع فيه جل البشر- ، وهو ليس معصية، لكن كأنه معصية! وهو لعلو همته يعتبره في حقه معصية؛ فيخلي قلبه من شواغل الدنيا ومشاغلها.
وبين الدكتور على جمعة أن لفظ « يخلى قلبه» كلمة وقف عندها الصوفية كثيرا، عند التخلية من القبيح، ويأتي بعدها عندهم معني آخر، وهو: أن يحلي قلبه بكل صحيح، وهذه هي التحلية.
وتابع عضو هيئة كبار العلماء أن التخلية تفريغ القلب من الشواغل والمشاغل، والتحلية هي تجميل القلب بهذه الصفات العالية من التوكل ومن الحب في الله والاعتماد عليه – تعالى- ومن الثقة بما في يده.. الخ.
وواصل المفتي السابق أن السالك إلي الله لا يزال إلي الآن في المرحلة الأولي من الطريق والتوبة؛ فإنه خلي قلبه من القبيح، وحلي قلبه بالصحيح، لكن تأتي توبة أخري بعد ذلك في مرحلة ثانية يتشوق فيها قلب هذا التقي النقي الذي خلي قلبه من الشواغل والمشاغل، وخلي نفسه وجوارحه من المعصية، ثم خلي قلبه من الشوائب. ثم حلي قلبه بتلك المعاني الفائقة الرائقة، وهو في كل ذلك يريد من الله أن يتجلي عليه.
ونبه الدكتور على جمعة أن التجلي يأتي بعد التخلي والتحلي، ومعناه- كما قالت الصوفية: التخلق بأخلاق الله: فالله تعالي رحيم؛ فلابد من أن نكون رحماء، والله تعالي رءوف فلابد من أن نكون كذلك، والله تعالي غفور فلا بد أن نكون متسامحين. نغفر للآخرين، ويصبح الإنسان في رضا عن الله، عنده تسليم تام بقدر الله.
ونوه أن الرضا والتسليم يدخل القلب على ثلاث مراحل: الأولى: هي مرحلة يسلم فيها بأمر الله، ويقاوم نفسه من الاعتراض والحزن؛ فهو يحزن لكنه يمنع نفسه من أن يعترض على أمر الله، وهو أيضا يبكي ليل نهار على فقدان الولد مثلا، لكنه ساكن القلب إلى حكمة الله تعالى.
وأبان أن المرحلة الثانية: لا يحزن؛ فلو مات له ابن أو أصابته مصيبة فانه يضحك.. والسبب اليقين في لطف الله وحكمته، والثالثة: يبكي؛ لأنه يستحضر في نفسه أن الله قد أفقده هذا العزيز لديه الآن من أجل أن يبكي، فهو لا يبكي حزنا إنما هو يبكي الله. وهذا هو الذي كان عليه مقام النبوة وأكابر الأولياء.
وأردف: لما فقد النبي ﷺ ابنه إبراهيم بكي، وفي حديث آخر أنه قد أرسلت ابنة النبي ﷺ إليه أن ابنا لي قبض، فائتنا، فأرسل يقريء السلام ويقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه جماعة من أصحابه؛ فرفع إلى رسول الله ﷺ الصبي وهو في النزع ففاضت عيناه ﷺ، فقال سعد: يا رسول الله!! ما هذا؟! فقال: "هذه رحمة" جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".
واسترسل أن النبي ﷺ يبكي على إبراهيم، ولكنه يبكي لأن الله قد قدر لمن أصيب بمصيبة أن يبكي، فالأول يبكي حزنا، والثاني يضحك رضا، والثالث يبكي مرة ثانية قهرا تحت سلطان الله سبحانه وتعالي، واستجابة لمقتضي ما أجراه الحق في هذا الوقت المخصوص من أحوال، وكأن الله أرادني الآن أن أحزن فأنا أحزن لذلك.
وأكد الدكتور على جمعة أن التوبة إذن أول الطريق، وهي مراحل: أولها: توبة من المعصية، ثم توبة من الأكوان بالتخلية والتحلية، ثم بعد ذلك توبة من كل شيء سوي الله، لافتًا: من تاب عما سوي الله تجلي الله عليه بصفاته؛ فكان عبدا ربانيا.
واختتم: يدعو الله ويقول: يارب.. فيستجيب الله له، وكان عبدا ربانيا في رضاه بالله، وفي تسليمه لأمر الله، لا مزيد علي ذلك عليه، ويكون بذلك قد فعل هذا الشيء الذي يسمى التوبة ، وهي : أولا: أن أتوب عن المعاصي، ثانيًا: التحلية والتخلية، ثالثا: مرحلة التجلي والرضا التام تحت قهر الله.