يرتبط شهر رمضان بقراءة القرآن، ويرتبط أيضا قيام ليله بترتيل القرآن، فماذا يعني الترتيل في اللغة، وماذا قالت عنه كتب التراث الإسلامي، سنحاول هنا إيجاد فهم جديد لمعنى الترتيل.
يقول رب العزة في كتابه الكريم ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا﴾ ، كلمات قوية ، نزلت في بدايات نزول الوحي على رسول الله ، وفي بداية سورة يقال أنها ثالث سور القرآن نزولًا على قلب النبي، ويتصل موضوع السورة بشكل مباشر بترتيل القرآن ، وبقراءته.
ففي بدايتها أمر للنبي بقيام نصف الليل أو أقل قليلًا أو أزيد من ذلك، لهدف أساسي وهو ترتيل القرآن، إذا من الواضح أن الترتيل في هذه السورة هو كلمة مفتاحية ، وهو الوسيلة التي أمر الله النبي أن يتهيأ بها لتلقي آياته والإستعداد لتحمل تكاليف الدعوة ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا﴾.
لكن ما المقصود بالترتيل هنا؟ سنجد أن المفهوم السائد للترتيل في كثيرمن المراجع هو : حُسن قراءة القرآن ومعرفة تجويد الألفاظ، وترتيل القراءة هو: أن تُؤَدِّيهَا بِتِلاَوَةٍ مُنَغَّمَةٍ وَبِصَوْتٍ حَسَنٍ، َأَدَاءٍ يَخْتَلِفُ عَنِ التَّجْوِيدِ وتلاوتها مع لحن ونغم، وتنسيق الألفاظ وحسن تنظيمها. وقالوا أن الأمر هنا وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا: أي: اقرأه قراءة بينة أو مبينة ، وترسل فيه ترسلًا، ولا تعجل بقراءة القرآن بل اقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني. وقال بعضهم : اقرأه حرفا حرفا.
نجد في هذه التفسيرات خلط واضح بين ثلاث مفردات أساسية أراها مختلفة تمامًا من حيث المراد والمعنى وهي: تلاوة القرآن، وقراءة القرآن، وترتيل القرآن، ولقناعتي التامة بعدم الترادف في القرآن الكريم، سنحاول هنا أن نجد تفسيرًا أكثر دلالة وعمقًا لمعنى ترتيل القرآن ، ولماذا أمر الله رسوله الكريم ، وأمرنا جميعًا به ، عند التعامل مع كتاب الله؟ ، وما الفرق بينه وبين قراءة القرآن ، وتلاوة القرآن .
تعالوا نبدأ بمعنى الترتيل. المتأمل لكتاب الله ، سيعرف حتمًا أن الموضوع الواحد منتشر بين سوره الكريمة ، فقصص الأنبياء مثلا ستجدها متفرقة في آيات كثيرة، ونجد أن قصة أحد الأنبياء تأتي متفرقة في أنحاء المصحف، فقصة نوح عليه السلام مثلًا سنجدها في ثلاث عشرة سورة من الكتاب الكريم، في سورة الأعراف (59 إلى 46) ، ويونس (71 الى 74)، وهود (25 إلى49) ، والأنبياء (76 إلى 77)، والمؤمنون (23 إلى 31) ، والفرقان (37) ، والشعراء(105 إلى122)، والعنكبوت(14 الى 15)، والصافات (75 الى 82)، والذاريات(46)، والقمر (9 الى 16) ، والتحريم (10)، ونوح (1 الى 28).
والشعائر أيضًا ستجدها تذكر موزعة في كتاب الله ، أو حتى متفرقًا داخل نفس السورة، مثلًا الحج : نجده مذكورا في : الآية ١٥٨ من سورة البقرة، ثم في الآية 189 ، ثم في الآيتين 196 و 197 ، ثم في سورة آل عمران الآية 97، ثم سورة التوبة الآية 3 ، ومرة أخرى في سورة التوبة الآية 19 ، ثم في سورة الحج الآية 27 .
حتى الأحكام ، فمثلًا أحكام الميراث والوصية ، ستجدها في الآيات من 7 الى 13 من سورة النساء ، ثم في آية الكلالة في آخر السورة الآية 176، والوصية في سورة المائدة من 106 الى 108 . طبعًا الأمثلة لا تنتهي ، لكن ما أوردته كان على سبيل المثال وتوضيح الفكرة .
هنا قد يتبادرإلى أذهاننا سؤالان.
السؤال الأول هو لماذا؟ ، ما الحكمة من وراء هذا ؟ لماذا لا نجد مثلا سورة للميراث ، وسورة لكل نبي تحكي قصته كلها ، وسورة للصلاة ، وأخرى للزكاة ، وهكذا . ليسهل علينا قراءة القرآن وتدبر معانيه، والرجوع مباشرة إلىأي موضوع ؟ السؤال الثاني : كيف والحال هكذا ، والموضوع الواحد منتشر في سور متعددة، كيف نستطيع أن نفهم آيات الكتاب الكريم وموضوعاته ؟
لمحاولة الإجابة عن السؤال الأول، دعوني أقول لكم عبارة قد تكون صادمة للبعض، "إذاوجدت القرآن بهذه الصورة، أي مصنفًا هذا التصنيف فتأكد من أنه من عند غير الله" ، فهو بهيئته التي تتخيلها تلك سيتناقض مع الكون كله ، فالكون كله ليس فيه هذا التصنيف ، جسم الإنسان مثلًا سنجد أن كل أجهزة الجسم تنتشر في كل الجسم ، ويستحيل وضع حدود فاصلة لكل جهاز ، فالجهاز العصبي ، منتشر في كل الجسم والأعصاب موجودة من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، ولو حاولنا فصله لأصيبت أعضاء الجسم بالشلل ، والجهاز الدوري وأوردته وشرايينه، لا يمكن فصلها أي جزء من الجسم، وإلا مات هذا الجزء وانقطع عنه الغذاء والأكسجين، ، فالجسم كله في حالة تشابك غريب، كل عضو لا يمكن فصله ، أو حتى دراسته بمعزل عن أجهزة الجسم الأخرى . فالجهاز العصبي منتشر في الجهاز الهضمي ، وجهاز المناعة يحمي جميع أجهزة وأعضاء وخلايا الجسم في دقة متناهية واعجاز رهيب، ولو حاولنا فصل أحد الأجهزة ، نجد أن النظام كله معرض لخطر محدق.
الكون كله كذلك، لا يمكن فصل اليابسة عن الماء ، فالماء موجود داخل اليابسة كأنهار وبرك وثلوج ، واليابسة في الماء على شكل جزر وقيعان للبحار والمحيطات ، بعض الطيور تسبح ، وبعض الأسماك تطير ، لا يمكن حتى عزل مجتمع عن العالم، واذا عزل ينقرض وينتهي ، الكون كله متشابك تشابك غريب. وهذا هو حال أيات المصحف، لأن خالق هذا الكون هو نفسه منزل هذا القرآن، فالكون هو كتاب الله المرئي، والقرآن هو كتابه المكتوب.
والسبب الثاني الذي أراه منطقيًا، أننا لو افترضنا أن الله أفرد سورة للحديث عن كل موضوع في القصص، والأخبار، والأنباء، والعبادات، والتشريع، والأحكام، والمعاملات، والتوحيد، ببساطة سنجد ملايين السور، ومليارات الآيات، ليس ذلك ببعيد على قدرة الله تعالى الله ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ الكهف 109 ، لكنه أبعد ما يكون عنا نحن وعن طرق استيعابنا المحدودة.
السؤال الثاني : إذاكان الحال هكذا ، كيف نستطيع أن نفهم آيات الكتاب الكريم؟
الإجابة، هي الترتيل. نعم الترتيل، اذا بحثنا سنجد الأصل اللغوي لفعل "رَتَل" أي صَفَ ، والرَّتَلُ: جماعةُ من الخيل أو السيارات يتبع بعضها أثر بعضَ، و رَتَلٌ مِنَ الجُنُودِ: صَفٌّ مِنَ الجُنُودِ مُتَرَاصٌّ، الجَمَاعَةُ مِنَ الجُنُودِ . اذا ترتيل القرآن مرتبط بمحاولة صف ونظم الآيات التي تتحدث عن نفس الموضوع ، رتلًا واحدًا متتابعًا. والبحث أفقيًا في جميع سور القرآن عن الآيات التي ورد فيها هذا الموضوع أو أشار الله اليه فيها.
اذا حاولنا فعل هذا، سنجد المعاني تتضح شيئًا فشيئًا في إعجاز، وتبدًا كل آية من آيات كتاب الله بأن تكون في تناسق غريب جزءًا من الصورة الكلية التي أراد الله لنا أن نراها بعد صف وتنظيم هذه الآيات بهذا الشكل، الأمر أشبه ما يكون بالأحجية أو "البازل" ، وفيها تتكون الصورة من عشرات الصور الصغيرة التي يجب أن تنتظم بشكل محدد وبترتيب دقيق لتظهر لك الصورة الكلية.
ولقد كان هذا نهج النبي في فهم وتدبر آيات القرآن الكريم، والأمثلة كثيرة ، مثلًا عندما نزلت هذه الآية : ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ الأنعام 82 ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ لقمان 13.
ومن الأمثلة على ترتيل الصحابة للمعاني : ما رواه ابن جرير بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى ﴿فأخذه الله نكالَ الآخرةِ والاُولى﴾ (النازعات: 25) قال: أما الأولى فحين قال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنِ اِلَهٍ غَيْرِي﴾ (القصص: 38) وأما الآخرة فحين قال: ﴿أنا رَبُّكُمُ الاَعْلى﴾ (النازعات: 24).
ومن الأمثلة الجميلة للترتيل، محاولة فهمنا لليقين ومراحله ودرجاته من القرآن الكريم ، قال تعالى : ﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر : 3 - 8]. «اليقين» يقابل «الشك»، واليقين يعني وضوح الشيء وثبوته. وهو من أعلى مراحل الإيمان. ولليقين مراتب، أشارت السورة إلىمرتبتين من اليقين هما : "علم اليقين" و"عين اليقين" ، ثم تأتي آيات أخرى من سورة أخرى وهي سورة الواقعة لتضيف مرحلة ثالثة وأعلى لليقين، وهي "حق اليقين" ﴿إِنَ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة : 95] ، أي أن لليقين مراحل ثلاثة لا نستطيع معرفتها الا إذا رتلنا أيات سورة التكاثر وآيات سورة الواقعة معًا.
إذا كان هذا هو الترتيل، فما معنى القراءة ، وما معنى التلاوة ؟
لقد لاحظنا أن الترتيل ليست عملية بسيطة، إنما تحتاج الى الكثير من الوقت والجهد، للبحث والتفكر والربط بين آيات الكتاب الكريم، لذا كان التخفيف في نهاية سورة المزمل أيضًا على المؤمنين، ونقلهم الى المرحلة الأقل صعوبة وهي "القراءة" إن لم يكن عندهم القدرة والوقت الكافي لعملية الترتيل الدقيقة ﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ... ﴾، إذا القراءة هي المرحلة التالية والأقل صعوبة وبها خفف الله عن المؤمنين.
لكن أيضًا القراءة ليست فقط عملية نطق النص ، وإنما تعلمه، قال تعالى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ﴾ ، هل رأيتم كيف ربط الله هنا القراءة بالتعلم.
أما التلاوة وهي المرحلة الأقل صعوبة من الترتيل ومن القراءة فهي نطق النص، وهي عكس الخط والكتابة ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (48)، كما لا تشترط التلاوة الفهم الكامل وتطبيق النص، قال تعالى ﴿ ۞ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ 44) . اذًا هي آليات ثلاثة للتعامل مع النص القرآني وتدبره وفهمه، الأعلى هي الترتيل ، ثم القراءة، ثم التلاوة ، وهي ليست مترادفات لنفس المعنى.
ونختم بتطبيق جميل ، لماذا لا نحاول تطبيق طريقة الترتيل على أية الترتيل ذاتها، أي نبحث في سور المصحف عن الآيات الأخرى التي ورد فيها الترتيل ونحاول أن نرتل الآيات معا صفا واحدا لنفهم الترتيل بشكل أدق. ورد الترتيل مرتينفي القرآن الكريم، الغريب أن من قال أن الترتيل هو تحسين الصوت والتغني بتلاوة الآيات ـ لم ينتبه الى المرة الثانية التي ذكر فيها الترتيل، سنجد الآية الثانية شارحة لمعنى الترتيل حصرًا بأنه ترتيب الآيات وصفها في أرتال، ﴿ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآنجملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا﴾ ، أنزلناه متفرقًا على قلبك في مناسبات متفرقة ، ثم رتلنا هذه الآيات وصففناها في سور متتالية، وأوحينا إليكترتيب هذه الآيات لتكوين سور الكتاب الكريم، ونحن نؤمن بأن ترتيب الآيات في السور توقيفي، أي جاء بأمر من الله عز وجل ، ولم يترك هذه العملية لأي بشر، ولو كان المعنى المقصود كما يقولون بأنه تحسين الصوت بقراءة القرآن ، كيف إذًا سيشرحون لنا قول الله عن نفسه ﴿ورتلناه ترتيلا﴾. قالوا أي أنزله على تؤدةوتمهل حسب أسباب النزول. إذا اعترفوا بأن الترتيل لا علاقة بموضوع القراءة والصوت والتلاوة في هذه الآية.
إذًا، ترتيل كتاب الله وتتبع المعاني من آية إلىآية، ومن سورة الى سورة، هو أمر ضروري ومحوري لنا جميعًا ، فتدبر معاني ألفاظالقرآن لا يمكن أن يأتي من آية واحدة أو سورة بعينها، يجب علينا ترتيل الآيات التي ورد فيها اللفظ ومحاولة صفها ورصها واستخلاص المعنى منها جميعًا، لأن كل واحدة منها ليست إلاخلية من صورة إجماليةمبدعة .