ساعات ويهل علينا شهر الرحمة والمغفرة لنستقبله هذا العام بطريقة مختلفة سيسجلها التاريخ، فتداعيات الأحداث الحالية تفرض علي الأمة الإسلامية دواعي مختلفة لم نشهدها من قبل ونقبلها مجبرين مضطرين خاضعين مستكينين داعين المولي عز وجل أن يزيل الغمة ولعل له في هذا حكمة فلقد رحم العديد من البشر من وبال الحروب وعواقبها ..وتوقفت العقول الأدمية الشريرة عن التفكير في أسلحة الدمار الشامل وتنفيذها وترهيب الآخرين بها ..ليتحول الفكر الي البحث عن أسلحة الإنقاذ الآمن حتي يتنفس العالم الصعداء... وليعلم من قد ينسي أن الله قريب..ربما هي استجابة الله لدعاء الضعفاء بالرحمة..فالحمد لله
ففي هذا الشهر العظيم ومنذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ينسج التاريخ لنا أثوابا من الحرير مرصعة بمواقف وأحداث جميلة لعل في تذكرها وسردها نظرة ايجابية للحياة، فعلي صوت بلال بن رباح فطر المسلمون. ونري الخلفاء المسلمون جميعا يحرصون علي افتتاح منشآتهم الدينية في هذا الشهر الذي كان الاحتفال به يبدأ منذ ليلة الرؤية و استطلاع هلاله. ففي العصر الأموي، عرف موكب الرؤية، وكان القضاة هم القائمون علي هذا الأمر، إذ يذهبون الي جامع محمود بسفح المقطم حيث توجد دكة عند أعلي نقطة ليجلسوا عليها، ويروا الهلال وسميت بـ"دكة القضاة"، وما أن يعلنوا الرؤية حتي يبدأوا في الطواف علي المساجد للإعلان عن بدء هذا الشهر الكريم، ثم تضاء منارات المساجد كمظهر للاحتفال..استمرت تلك العادات طوال العصور الإسلامية المختلفة، الأموي والعباسي، ويطرأ بعض من التغيرات في عصور أخري، فنجد في العصر الأخشيدي، أن الجيش يقوم بعمل عروض ضخمة إعلانا بقدوم الشهر، أما في العصر الفاطمي فكان الخليفة يسير في موكب فخيم في شارع المعز -خان الخليلي حاليا- ويتقدمه التجار بمختلف أنواعهم والجوهرييين - تجار المجوهرات والحلي والذهب والفضة- ، وتزين المحلات وتضاء منارات المساجد، ثم يخرج الموكب من باب الفتوح، وتوزع أثناء سيره الصدقات علي الفقراء والمساكين.
في هذا الشهر، كان العمل مستمر حتي قبل المغرب بقليل وأول من بدأ في صرف العمال في رمضان وقت العصر كان في العصر الطولوني على يد "أحمد بن طولون" عندما كان يتفقد أعمال الإنشاءات في مسجده ورأي الصناع يشتغلون حتي وقت الغروب، فقال: "متى يشتري هؤلاء الضعفاء افطار عيالهم؟ اصرفوهم عصرا".. ومنذ ذلك الوقت وأصبح هذا تقليدا متبعا. وقد اتبع الأيوبيون تقريبا نفس المظاهر الا إنهم كانوا يضيئون المآذن ايذانا ببدء السحور وتطفئ قبل الفجر.
أما المماليك فمع نهاية شهر شعبان يجددون الحصر في المساجد كافة، ويحسب لهم كثرة أعمال الخير طوال الشهر ومنها إقامة المآدب وإطلاق سراح المساجين، وظهرت عادة اطلاق مدفع الإفطار في العصر المملوكي الجركسي، حينما قام الملك"خشقدم الأحمدي"٨٥٩ هجريا باستخدام طلقات المدفع لانهاء عمل العمال وكان قرب المغرب، فظن الجميع أنه إعلان بموعد الإفطار فاستحسن الخليفة هذا الظن واتخذ منه عادة وتقليد وهو ما نراه حتي يومنا هذا. وكانوا يستطلعون هلال الشهر من مئذنة مدرسة المنصور قلوون بالنحاسين لوقوعها أمام المحكمة الشرعية آنذاك( الآن مدرسة الصالح نجم الدين أيوب) وعرف وقتها تعليق الفوانيس علي أبواب الدكاكين بأشكالها المختلفة.
تستمر العادات في العصر العثماني وعصر محمدعلي احتفالا بهذا الشهر بنفس المنوال مع تغيير مكان خروج الموكب حيث كان يخرج من أمام المحكمة الشرعية.
ولطالما اهتم المسلمون بالأكل والموائد خلال هذا الشهر، وحرص الجميع - غني وفقير- علي تناول وجبتي الأفطار والسحور، وقد عرف المسلمون منذ العصر الفاطمي الكنافة والقطايف والمكسرات وانتشر الكعك بشكل كبير في العصر المملوكي حيث صنعت قوالب مخصوصة منقوش عليها مجموعة من العبارات منها "أكلة هنية.. و كل وأشكر مولاك.. بالشكر تدوم النعم". ومازال جزء من تلك القوالب محفوظ في متحف الفن الإسلامي، وكان الكعك يوزع صدقة جارية للفقراء.
وكان الخلفاء حريصون علي تلاوة القرآن والاجتماع بالعلماء والفقهاء علي موائد الافطار ويستحبون ويظلوا يتلون القرآن ويصلومن من بعد الإفطار وحتي بداية السحور.
رمضان هذا العام سيخلو من كل هذه المظاهر حرصا علي حياتنا جميعا. ولكن من الممكن إضاءة كل مساجد الجمهورية طوال الشهر وتجديد السجاد بها وتطوير أي من التالف، ومن الجميل تزيين مداخل العمارات والشوارع بالفوانيس والاتفاق مع المطاعم لتوزيع وجبات الطعام افطارا وسحورا إ أمكن، ومن المؤكد أن مصر فقيرا وغنيا يمتلك طيبة القلب التي تجعله يبدع في عمل الخير ليس فحسب في رمضان بل طوال العام.
كل عام وانتم بصحة وخير