يشهد اليوم الموافق الخامس عشر من شهر شعبان، ذكرى تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى الحرام، والتي تُعد حدثًا عظيمًا في تاريخ الأمة الإسلامية، ويرى البعض أن تحويل القبلة لم يحدث في شعبان، ويستطلع "صدى البلد" آراء العلماء الذين أكدوا أن تحويل القبلة كان في شعبان.
أكد الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، أن ليلة النصف من شعبان من الليالي المباركة التي يجب على المسلم أن يحرص على التزود فيها من الطاعة؛ لأن الإنسان في مسيرة حياته يحتاج إلى أن يتزود شيئًا فشيئًا من الأنوار الربانية بفعل الطاعات والتقرب إلى الله في الأيام والليالي المباركة.
وأضاف "علام"، أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ للإنسان محطات للتزود بالطاعات والأنوار والتقرب إلى الله، فجعل محطات يومية مثل الصلوات الخمس وسننها التي هي طهارة للروح والجسد وتكفير للذنوب، وكذلك جعل محطات أسبوعية من الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينها، ومحطات سنوية كشهر رمضان المبارك، وأيضًا خلال العام جعل في أيامه نفحات مثل ليلة النصف من شعبان ويوم عاشوراء ويوم عرفة وليلة القدر وغيرهم.
ليلة النصف من شعبان
وأشار إلى أن ليلة النصف من شعبان قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فضَّلها وتعبَّد فيها لله عز وجل، وعلى ذلك سار الصحابة الكرام والتابعون والمسلمون جميعًا إلى يومنا هذا، فالناس لا يزالون يحتفلون ويحيون هذه الليلة المباركة.
اقرأ أيضًا:
كيفية إحياء ليلة النصف من شعبان
وردًّا على من يشككون في فضائل ليلة النصف من شعبان وإحيائها بالطاعة، قال مفتي الجمهورية: "إنه يظهر كل عام من يشتتون الناس وينكرون عليهم إحياء هذه الليلة المباركة بالطاعات، رغم أن هناك نصوصًا تدل على إحياء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليلة النصف من شعبان".
وأضاف أن إحياءنا لليلة النصف من شعبان موافق للسنة النبوية المطهرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أوصانا بإحياء هذه الليلة بأن نقوم ليلها ونعبد الله فيها وأن نصوم يوم النصف من رمضان، وذلك فيما رواه الإمام ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها".
وألمح إلى أن إحياء مثل هذه الليالي المباركة ليس بدعة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"، موضحًا أن البدعة هي إحداث أمر ليس له أصل في الدين أو يصطدم مع أصل من أصول الدين أو يُعطِل حكمًا شرعيًّا ويخالفه.
وواصل: أن من يرى موقف الإمام الشافعي عندما جاء إلى مصر وسألوه عن تكبيرات المصريين في العيدين وما يزيدون فيها فقال: ما عليه الناس من التكبير هو حسن، يدرك أن العلماء قد فهموا معنى السنة الحسنة، مشيرًا إلى أن الصحابة الكرام قد أحدثوا أمورًا ولكنها متفقة مع أصول الإسلام ولا تصطدم مع نص شرعي.
وأكمل: أن التابعين أدركوا أهمية ليلة النصف من شعبان، حيث ورد عن الكثير من التابعين أنهم كانوا يحتفلون بهذه الليلة مثل إسحاق بن راهويه، وخالد بن معدان، ولقمان بن عامر وغيرهم، بل كانوا يلبسون أحسن الثياب ويتبخرون ويقومون في المسجد في تلك الليلة يقرءون القرآن ويسبحون ويذكرون الله ويصلون.
وذكر مفتي الجمهورية قولًا للإمام الفاكهي وهو يتكلم في كتابه "أخبار مكة"، كيف كان أهل مكة يحتفلون بليلة النصف من شعبان، حيث قال في باب "ذكر عمل أهل مكة ليلة النصف من شعبان": "وأهل مكة فيما مضى إلى اليوم إذا كان ليلة النصف من شعبان، خرج عامة الرجال والنساء إلى المسجد، فصلوا، وطافوا، وأحيوا ليلتهم حتى الصباح بالقراءة في المسجد الحرام، حتى يختموا القرآن كله، ويصلوا، ومن صلى منهم تلك الليلة مائة ركعة يقرأ في كل ركعة بـ الحمد، وقل هو الله أحد عشر مرات، وأخذوا من ماء زمزم تلك الليلة، فشربوه، واغتسلوا به، وخبؤوه عندهم للمرضى، يبتغون بذلك البركة في هذه الليلة، ويروى فيه أحاديث كثيرة".
ووجه رسالة قائلًا: "علينا أن نقدم لربنا سبحانه وتعالى ما نتقرب به إليه وأن تستنير قلوبنا بالأنوار الإلهية بفعل الطاعة في هذه الليلة، فقد وردت روايات تقول بأن الأعمال ترفع في شهر شعبان، ونحن عندما نحيي هذه الليالي نكون في نفحة من نفحات الله، فهي ليلة يستجاب فيها الدعاء، وعندما اشتاق النبي لأن تتحول القبلة إلى المسجد الحرام استجاب الله فيها لدعائه.
الحكمة من تحويل القبلة
ونبه مفتي الجمهورية، على أن ذكرى ليلة النصف من شعبان، التي هي ذكرى تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، مصداقًا لقول المولى عز وجل: "قد نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ".
وأفاد بأن الحكمة من تحويل القبلة هي اختبار لقوة إيمان المؤمنين، كما أنها درس مهم في الصبر، فبعد تحويل القبلة جاء من يشككون الناس في رحمة الله، وقال إن ما صلاه الناس من صلوات قد ضاعت، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ".
أربعة أسباب لتحويل القبلة:
أبان الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، أن في كل مرة حدث تحويل للقبلة، كانت الحكمة مختلفة، حيث تحولت القبلة مرتين، أولهما من الكعبة إلى المسجد الأقصى، والثانية إلى المسجد الحرام.
وذكر أن تحويل القبلة في البداية من الكعبة إلى المسجد الأقصى كان لحكمة تربوية، وهي العمل على تقوية إيمان المؤمنين، وتنقية النفوس وتطهير قلوبهم مما علق بها من شوائب الجاهلية، وأمثل لقوله تعالى:«وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ»، مكذلك ليظهر من يتبع الرسول اتابعًا صادقًا عن اقتناع وتسليم، ممن ينقلب على عقبيه ويتعلق قلبه بدعاوى الجاهلية ورواسبها.
ونوه بأن صدور الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام -التحويل الثاني- بعد أن استتب الأمر لدولة الإسلام في المدينة، ليس إلا تأكيدًا للرابطة الوثيقة بين المسجدين، فإذا كانت رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، قد قطع فيها مسافة زمانية قصرت أو طالت، إلا أن تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام كان رحلة تعبدية، الغرض منها التوجه إلى الله تعالى دون قطع مسافات، فلا مسافة بين الخالق والمخلوق، مستدلًا بقوله تعالى:«وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ».
واستطرد: وعندما يتجه الإنسان من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، فهو بذلك يعود إلى أصل القبلة ، فقال تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ»، فهي دائرة بدأت بآدم مرورًا بإبراهيم حتى عيسى - عليهم السلام-، ولكنها لم تتم أو تكتمل إلا بالرسول الخاتم – صلى الله عليه وسلم - فقد أخره الله ليقدمه، فهو وإن تأخر في الزمان فقد تحقق على يديه الكمال.
العلاقة بين تحويل القبلة وحُب الأوطان
ولفت «عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف» إلى أن الله سبحانه وتعالى كرم نبيه – صلى الله عليه وسلم - في ليلة النصف من شعبان، بأن طيب خاطره بتحويل القبلة، لتقر عينه، فقلبه معلق بمكة.
وأشار إلى أن أن تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام جاء لتقر عين الرسول – صلى الله عليه وسلم - فقلبه معلق بمكة، يمتلئ شوقًا وحنينا إليها، إذ هي أحب البلاد إليه، وقد أخرجه قومه واضطروه إلى الهجرة إلى المدينة المنورة، التي شرفت بمقامه الشريف، فخرج من بين ظهرانيهم، ووقف على مشارف مكة المكرمة، قائلا: «والله إنك لخير أرض الله وأحب الأرض إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» (رواه الترمذي).
وأردف: أنه صلى الله عليه وسلم ظل متعلقًا بمكة المكرمة بعد أن استقر بالمدينة المنورة، فأرضاه الله عز وجل بأن جعل القبلة إلى البيت الحرام، فكانت الإقامة بالمدينة والتوجه إلى مكة في كل صلاة، ليرتبط عميق الإيمان بحب الأوطان.