الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

سيمفونية التسع العجاف


يقال إن الكتابة ليست إلا حلمًا موجهًا، واحدًا من أحلام اليقظة المتواصلة هربًا من ضبابية الواقع الرحبة إلى مثالية الخيال اللامحدود، لكن أن تكتب عن حقبة زمنية حملت بين طياتها كثيرًا من الانكسار وقليلًا من الصمود الممزوجين بحفنة من الخبرة التي لا بأس بها، فهذا بمثابة كابوس لا حلمًا، كابوس ينتشل جيلًا كاملًا من أحلام اليقظة ويرجُّه بكل عنفوان كي يستفيق من غفوته.

بجسم نحيل وبشرة سوداء تنم عن أصوله الجنوبية، وعينين جاحظتين تختبئان خلف نظارة «قعر كوباية»، تحدقان في كتاب بنهم، كصقر أوشك أن ينقض على فريسته، يتكئ زين العطار، مهندس اتصالات في مقتبل الثلاثين، على أريكة في غرفته التي خلت من كل شيء إلا سحاب دخان كثيف وصوت أم كلثوم وهي تصدح بصوتها الجهوري: «نسيت النوم وأحلامه نسيت لياليه وأيامه بعيد عنك حياتي عذاب»، غير مبالٍ بما يدور حوله من أوضاع عالمية وحظر تجول في كل بلدان العالم بفعل وباء عالمي وجائحة لعينة أفسدت على الجميع مخططاتهم.

فقط تلتقط أذناه كلمات الست ثومة «بعيد عنك حياتي عذاب» مثل المغناطيس، كسيمفونية «ضربات القدر» لبيتهوفن، تأخذه إلى الوراء، إلى سنته الدراسية الأخيرة التي صادفت قيام ثورة يناير، تعيد شريط ذكرياته في ثلاثين دقيقة مدة عرض اللحن الافتتاحي للسيمفونية الخامسة لبيتهوفن «ضربات القدر»، تلك التي تعد واحدة من أعظم سيمفونيات بيتهوفن وأشهر المؤلفات الكلاسيكية على مر التاريخ، وكأنه اشتاق ليس إلى محبوبته التي هجرته كما تغنت الست أم كلثوم، ولكن إلى عمره الذي انسل من بين يديه في حين غفلة منه كما ينسل الماء من الغربال.

9 سنوات عجاف مرت على الجميع وليس زين العطار فقط، ثورة ثم مرحلة انتقالية ثم دوامة فمتاهة، ضحايا هنا وجناة هناك، رفقاء درب شتتتهم السياسة أو القضبان أو الموت، تذكر زميل طفولته الذي انضم إلى حزب سياسي وسادت بينهما قطيعة أبدية، وجاره الآخر الذي يمكث خلف القضبان بسبب آرائه السياسية، وصديق شقيقه الذي استشهد في سيناء خلال فترة تجنيده.

استعاد ذكريات رغبته في السفر للخارج ومحاولاته للهجرة هربًا من واقعه ليس إلا، فهو لم يكن يفكر يومًا في هذا الأمر بسبب ظروفه المادية الميسورة، وكانت فكرة السفر بالنسبة له فقط للسياحة والتسوق.

أسند ظهره وأخذ نفسًا عميقًا، وتذكر: ثورة ووضع اقتصادي مأزوم وتخبط في اتخاذ القرارات، وجائحة عالمية وموت أصدقاء العمر «ضابط برتبة نقيب في سيناء، وآخر صحفي تغلغلت الأورام السرطانية إلى دمه، وثالث مات كمدًا على حاله في غياهب السجن»، لن يكون غريبًا على  زين العطار أن يشاهد باستمتاع سقوط نيازك من السماء أو ظهور تنانين مجنحة تتخطف من حوله وهو ينفث دخان سيجارته في الهواء مكونًا سحابة تتراقص فرحًا بتحررها من ذلك الصدر المهموم.

أدرك زين العطار جليًا أن ما اصابه من انكسارات وحسرات ما هي إلا انعكاسات مرآة حقيقية لجيل كامل عانى ويلات الفرقة والتشرذم، العزلة والانزواء، فقدان الشغف المعجون باللامبالاة، فيتملكه الضجر، وما إن يشرع في إطلاق وابل من السباب واللعنات، حتى تناديه الست أم كلثوم: «ومهما السهد حيرني.. ومهما الشوق سهرني.. لا طول بعدك يغيرني.. ولا الأيام بتبعدني.. بعيد عنك»، فتشق كلماتها صدر الشاب الجنوبي الذي يحمل كل معاني التضاد في آن واحد، فيرتسم أمامه بصيص أمل كشمعة صغيرة أضاءت حجرت كالحة الظلام فبددت وحشتها مكونة لوحة سيريالية قادته إلى مقطوعة «أنشودة الفرح»، تلك السيمفونية التي تحمل الرقم 9 لبيتهوفن، وكأنها تخبره بأن الخير دائمًا يخرج من داخل الشر.

تسربت شعلة الأمل إلى أعماق صديقنا الثلاثيني فبددت وحشته، وذكرته بصلابة جيله التي حدَّت فوضى الفكر والمشاعر المتسارعة وكبحت جماح الانتقام بفعل الخبرة التي أكسبت إياه تلك الصعاب، مؤمنًا من أعماقه أن الشدائد دائمًا ما تصنع الرجال، والمحن تنضج الخبرة، وأن الفرج يولد من رحم الضيق، وأن هذا الجيل سيقول كلمته ويفرض سيطرته، فالبقاء للأقوى بالعلم وليس السلاح، وهذا ما كشفته وتكشفه الأيام، وسيبدل هذا الجيل سيمفونية التسع العجاف بأخرى سِمان.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط