في خطوة
مفاجئة أقدم المبعوث الأممي إلى ليبيا(غسان سلامة) على طلب الاستقالة من منصبه
لأسباب صحية.. الاستقالة جاءت في رسالة عبر البريد الإلكتروني أرسلها سلامة إلى
الأمين العام للأمم المتحدة بعد ما يقرب من ثلاثة أعوام قضاها في هذا المنصب الذي
تولاه في 17 يونيو 2017، وقد سبقه إلى هذا المنصب ستة مبعوثين هم وزير الخارجية
الأردني الاسبق عبد الإله الخطيب ، الذي لم يمكث أكثر من أربعة أشهر، والدبلوماسي
البريطاني إيان مارتن، الذي ظل قرابه عام واحد ثم اللبناني طارق متري، الذي تولى
رئاسة البعثة الاممية ما يقرب من عامين وألف كتاب عن تجربته في ليبيا ، قال فيه
أنه غادر حين اصبحت مهمته مستحيلة في إقناع النخب السياسية. فالاسباني برنارد
ينوليون، الذي وجهت له اتهامات بعدم الحياد بسبب التقسيمات التي أحدثها اتفاق
الصخيرات، ثم الألماني المخضرم مارتن كوبلر، الذي فشل في مهمته رغم نجاحاته السابقة
في العراق وافغانستان والكونغو الديمقراطية بسبب خلافات الأطراف الليبية، وأخيرا
الفرنسي من اصل لبناني الوزير السابق غسان سلامة.
وقد كتب سلامة نصًا: أعترف بأن صحتي لم تعد
تسمح لي بالتعرض للكثير من الاجهاد وقد سعيت لعامين ونصف للم شمل الليبيين وكبح التدخل
الخارجي في هذا البلد...
واضح بالطبع
من الكلمات التي استخدمها سلامة في رسالته بأن الرجل ضاق ذرعًا لأن جهوده الكبيرة
أو هكذا يتصور هو لم تؤدي إلى الثمار التي يرجوها وأن الفوضى مازالت في ليبيا.
وأنه بحسب
مقربين منه يعاني مشاعر الياس والإحباط لاخفاقه في تحقيق الهدف الأول لمخرجات
مؤتمر برلين وهو وقف إطلاق النار وباءت كافة نداءاته للولايات المتحدة وإيطاليا
والاتحاد الأوروبي للقيام بدور أكبر في ليبيا بالفشل.
وبغض النظر عن كواليس الاستقالة فمما لا شك فيه
أنها جاءت في وقت حساس للغاية مع انطلاق المسارين السياسي والعسكري بين طرفي
النزاع الليبي في جنيف والهم الأكبر الآن للامين العام للأمم المتحدة (انطونيو
غوتيرش) هو الحفاظ على المكاسب التي تحققت لاسيما بعد إحراز تقدم ملموس في المسار
العسكري وأن يقوم بمحاولة انتقال سلس لتعيين مبعوث بديل لأن خروج سلامة من المشهد سيؤدي
حتمًا إلى فراغ قد يتم استغلاله من خلال التصعيد العسكري.
والحقيقية أن
فشل غسان سلامة ليس شئ جديد فالمشكلة في ليبيا هي الاختلاف الحاد والتدخلات
الخارجية المتعددة وتضارب المصالح وسلامة كان يحاول الحفاظ على توازنات الدول
الفاعلة ولم يكن هو من يدير الملف الليبي اصلًا بل كانت هذه الدول وكان يفضل دور
المندوب السامي الذي يريد لي الإرادة الوطنية لتتناسب مع رغبات الدول الخمس
الفاعلة على الأرض في ليبيا.
لم يحسن
اختيار أدواته ولا الطريقة المناسبة للتعامل مع تفاصيل الأزمة ولم يستطع أن يكون
ليبي في قراءة المشهد على حقيقته وضرب العملية السياسية في ممارساته التي تميزت
بالتناقضات والازدواجية وارتكب العديد من الاخطاء التي ساهمت في تعقيد الأزمة وليس
حلها فهو لذلك عليه العديد من الملاحظات فسلامة لم يلعب دور الوسيط بل كان منحازًا
على طول الخط لحكومة السراج، بما يتعارض مع مهمته كمبعوث أممي وبالرغم من هذا
الانحياز اتهمه خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة بأنه خالف كتابه الاول بشأن
معيار الاختيار والتمثيل بالحوار السياسي، وكان يساوي بين من يكافح الإرهاب وبين الميلشيات
في طرابلس وهو يعلم جيدا أن هذه الميليشيا أكبر من حكومة الوفاق، وقد أضفى شرعية
على الجماعات المتشددة في طرابلس في سابقة هي الأولى من نوعها في العالم ورغم
خبرته السابقة في العراق تعامل مع الأزمة الليبية بروح الأكاديمي وقدم أطروحات اقل
ما يقال عنها أنها غير واقعية فكيف سيتحقق الحل السياسي والعاصمة طرابلس تمتلئ بالميليشيات
المسلحة التي تعربد فيها .. كيف سيتحقق الأمن لليبيا وهو يغض الطرف عن السفن
القادمة من تركيا وإيران محملة بالسلاح ولم يبلغ لجنة العقوبات الدولية عن
انتهاكات حظر تصدير السلاح إلى ليبيا.. حتى أصبحت ليبيا بها أكثر من 2 مليون قطعة
سلاح..
كان يوجه الانتقادات
واللوم للمشير خليفة حفتر ، قائد الجيش الوطني الليبي لأن حفتر كان يريد تنظيف
طرابلس من الجيوب الإرهابية واستعادة الاستقرار في البلاد. لم يذكر تركيا صراحة
ولا مرة حتى رغم اعتراف اردوغان نفسه بجلب المرتزقة السوريين لقتال الجيش الوطني
الليبي.. كان دائم الرضوخ للابتزاز القطري والتركي وايضا للضغوط الدولية.
اقول
للمتباكين على استقالة غسان سلامة ويرون أنه كان الأفضل والأكثر جهدا بين كل
مبعوثي الأمم المتحدة أن سلامة افتقد لأبسط قواعد الحياد والإيجابية وهو يعلم جيدا
أن الأزمة أمنية بالاساس ومع ذلك ترك الجناة يعبثون فسادًا في أراضي ليبيا وأدان
من حاول القضاء على الإرهاب وتفكيك هذه الميليشيات .. لم يستمع لصوت القبائل
الليبية الاكثر دراية بالتركيبة السياسية والاجتماعية في ليبيا وفضل الاستماع
لوجهة نظر الميليشيات لذلك عندما اجتمعت القبائل الليبية في ترهونة والتي تضم كل
أطياف الشعب الليبي طالبت صراحة بأن يرحل سلامة لأنها شعرت بأنه يخطط لصخيرات(2) .
غسان سلامة
وبكل اسف سبح عكس التيار وعكس الإرادة الوطنية الليبية فكان من الطبيعي أن يصل إلى
طريق مسدود وأيا كان الذي سيخلفه في المنصب سواء كانت نائبته للشئون السياسية الأمريكية
( ستيفاني ويلياميز) وهي أقوى المرشحين نظرا لخبرتها في هذا الملف أو حتى جاءوا
بمبعوث أفريقي أممي مشترك أو عربي أو أوروبي ، أتمنى الا يضيع المزيد من وقت
الأزمة الليبية التي طالت ولا تحتمل أكثر من ذلك ، أعلم أن كل العواصم الفاعلة
ستضغط لفرض وسيط يحافظ على مصالحها وأجندتها في ليبيا لكن أتمنى ألا يتحول هذا
الضغط إلى خلاف كبير ينتج عنه محاولة إقناع غسان سلامة بالبقاء والعدول عن الاستقالة كما حدث سابقا مما انعكس سلبا على
البعثة الأممية كلها التي لم تعد قادرة وغير مجدية في ليبيا في ظل عملية سياسية
شديدة التعقيد .
إن غسان سلامة
وبلا مبالغة سيحاسب أمام التاريخ إن آجلا أو عاجلًا لمواقفه التي اتصفت بالميوعة والليونة أمام
حشود المرتزقة التي تدفقت للسواحل الليبية حتى أنه لم يجرؤ على توجيه مجرد اللوم
لتركيا وقطر وهما الدولتين الراعيتين للميلشيا في ليبيا، بل التزم الصمت الرهيب.
لذلك اقول
للسيد سلامة بالسلامة غير مأسوف عليك فقد اضعت عامين ونصف من عمر الأزمة الليبية
كان من الممكن أن تتحول إلى سنوات الأمل بالنسبة لليبيين بدلا من كارثة دخول ليبيا في نزاع مسلح لن تحمد
عقباه.