منذ طفولته كان البحر مركز عالمه ، مبعث إحساسه بالحرية ، يلهمه التفاؤل ، يملؤه بالتلقائية والانطلاق ، ويصبغ أحلامه بالمرح والثقة ، ترك مدينته الساحلية الصغيرة للدراسة في العاصمة ، لكن الحنين للبحر كان يغلبه ، فيعود إليه فى كل أجازة وفى نهاية الأسبوع .
دفعه الطموح لدراسة الهندسة ، تفوق فيها ، فاختاروه لبناء منشآت مناجم اليورانيوم ، لكن المكسب المادي فى تلك المعيشة الجافة لم يكن لينسيه مشاعر الطفولة السعيدة ، فقرر البدء من جديد تاركا خلفه رونق المنصب ووفرة المال.
وفى ميناء خليج والفيش حيث نشأ فى ناميبيا وجد عملا لدى شركة قوارب سياحية ، يقود إحداها ليطلع الراكبين على روائع الطبيعة والمشروعات المقامة بالميناء ، أفكار مبتكرة أبدعتها عقول خلاقة ونفوس واثقة وارادات صلبة أحدهم أقام هياكل حديدية بالميناء تترك عليها الطيور الوفيرة بقاياها فيصدرها سمادا لأوربا ، وآخر استورد ذريعة قواقع من شيلى ، لينميها فى براميل منثورة فى مياه الميناء ، ثم يبيعها فى السوق المحلى ويصدرها ، لينعم المستهلكون بقيمتها الغذائية الفريدة مهما غلا ثمنها
القوارب تتهادى فى الميناء ، والسائحون مبهورون بطبيعة بكر وألوان صافية ومناخ منعش وحيوانات مائية غفيرة وطيور متعددة الأنواع ، و " انجو " الذي ترك الهندسة ليعمل بحارا ، وجد نفسه فى مياه الخليج مفعما بالحيوية والشباب تنتقل مشاعره السعيدة الى الركاب بقدرته الجذابة على التواصل ، التي تعدت البشر الى حيوانات وطيور الميناء ، فآلفوه وأصبحوا يميزونه ، ينادى الطيور بصفيره ،فيسرعون اليه أسرابا حول القارب ، فيقدم اليهم والى كلاب البحر صغار السمك طعاما كلاب البحر التى تتحرك متثاقلة زاحفة على البر تنطلق كقذائف الطوربيد لتلحق بالقارب ، وتصعد اليه بحثا عن غذائها ، فتسرى عن ركاب مأخوذين بالتوافق والصفاء مع الحيوان والطيور والطبيعة والمناخ ، يعودون من رحلتهم بحيوية متجددة وابتسامة واثقة وروح مرحة وصور فريدة.
استقل " انجو " بعمله ، فبدأ بقارب بخاري صغير ، ولكن حبه للبحر والكائنات ومشاعره السعيدة الفياضة جلبوا اليه الزبائن والمكاسب ، فاستخدم دراسته وخبرته ووقته فى تصميم وبناء قارب كبير نموذجي فخم ، يراعى الاعتبارات العملية ومتطلبات المتانة وتخفيض تكاليف الصيانة بمساعدة شركة إقليمية متخصصة وحقق بذلك وفرا بنسبة الثلث فى سعر القارب.
كانت رحلتي الأخيرة فى القارب الجديد ، وشاركت انجو الإحساس بالسعادة لتحقيق حلمه فقص على حكايته رأيت كيف أصر على تحقيق ذاته ، على أن يكون عمله متعته ، على أن يترك الرغد ليبدأ من الصفر بحثا عن التوافق ، على أن يهجر الرمال والمعادن ليتواصل مع البشر والحيوان والطير ، على أن يستقل بعمله ويستخدم علمه لترشيد استثماره ، على أن يبقى تلقائيا حرا منطلقا ، فينعم بالحيوية والشباب وينشر السعادة من حوله.
انجو ومستثمرا القواقع والهياكل الحديدية أمثلة لعقول حرة وقلوب شابة وارادات واعية ، أقامت أعمالا مفيدة مجزية باستثمارات قليلة وأفكار خلاقة وهم يثبتون مجددآ أن الثروة الحقيقية هى البشر المتعلم والنفوس السوية ، وأن الفكر الحر مهما تثير تبعاته من مخاوف أساس لنهضة الأمم .