تمر السنون والأيام بل العقود و القرون و نظل نرى طيف ذلك الرباط الذى يربط مصريي هذا الزمان بأسلافهم المصريين القدماء.
فإن كنا نرى المعابد و نقوشها تحاكى بعضا من عادات المصريين التى ما زالت حاضرة فى مظاهر حياتهم، الا انه مع تعاقب السنوات و الاحتلالات و الهجرات خفتت تلك الرؤية بفعل الزمن و استيلائه على جزء كبير من تلك الذاكرة. فنجد عيد الربيع و اسمه شم النسيم باللهجة العامية الحالية و"شمو" بالفرعونية القديمة ما زال يمارس المصريون طقوسه بحذافيرها. وما زلنا ايضا نرى الفلاح المصرى يستعمل تقريبا نفس الادوات القديمة. الا ان ما كانت الحضارة المصرية القديمة سباقة فيه هو إيمانها المبكر بفكرة البعث والخلود و حياة ما بعد الموت. هذا الايمان فى حد ذاته نابع من تقديس عقيدة الموت و اعتبارها الحقيقة التى تستحق العمل الجاد و الاعداد لها منذ فجر التاريخ، لتتلاقى تلك العقيدة مع اعتناقهم الاسلام الذى يقوم على نفس المعرفة تقريبا و التى شرحها القرآن الكريم باستفاضة كبيرة دونما الديانات الاخرى فى توافق كبير بما أتت به الحضارة المصرية .
فكرة الموت و قدسيته انتقلت من القدماء و دخل عليها الاسلام ليهذبها من النقوش و الرسومات على جدران القبور ويلغى فكر احتفاظ الميت بأشيائه داخل مقبرته استعدادا لحياته الاخرى. و لكن لم يلغ بناء القبور و الاهتمام باقتنائها، فهم الشعب الوحيد تقريبا الذى يتحمل ذلك العبء المادى من اجل موتاهم. فالمصريون يحترمون حرمة الميت و يقسمون بها "عضم التربة" . و لعل ذلك الموروث من المشاعر اعلن عن نفسه بشراسة عندما توفي رئيس مصر الاسبق محمد حسنى مبارك و الذى اطلقت عليه وسائل الاعلام الاجنبية "آخر فراعين مصر" نظرا لطول فترة حكمه و تمتعه بسلطة اشبه بالسلطة الملكية المطلقة كما وصفوه.
كان محمد حسنى مبارك قد تنحى عن السلطة بعد حراك سياسي فى موجة الجحيم العربي الاولى التى بدأت فى 25 يناير 2011 الى ان اعلن تخليه عن منصبه فى 11 فبراير. قضى مبارك الفترة بين 2011 و حتى اواخر ايامه فى فبراير 2020 بين اروقة المحاكم و خلف قضبان السجون و على سرير المرض اما فى المستشفيات العسكرية او فى منزله. تداولت اخباره الصحف واصفة اياه بالمستبد و المتغول على السلطة او بالمغتصب للاموال هو و ابناؤه. وكان الاتهام الاكبر و الذى يعتبره المحللون شرارة النهاية هو بطش الأمن فى عهده و تضييقه على المعارضة و النشطاء السياسيين، ليكتشف شعبه ان كل هؤلاء لم يكونوا طامة نظامه الكبرى بل كان احتواؤه للجماعة الارهابية و تصديقه لمراجعاتهم الفكرية و راح بعيدا الى حد اقامة التحالفات السياسية معهم مما ادى الى افراغ الحياة السياسية المصرية من الكوادر القادرة على بناء مجتمع سياسي صحى قائم على التنوع و الشمول السياسي لكافة طوائف مصر ليخلف النظام الحاكم و يعبر بالبلاد الى عهد جديد. ظن مبارك انه قد تعلم الدرس من مشهد اغتيال الرئيس السادات الذى سبقه و لكن الواقع أثبت عكس ذلك،لتدخل البلاد بعده فى دوامات سياسية وفراغ دستوري عنيف و يجد الشعب نفسه امام كيانات كرتونية لا يوجد لديها قواعد حقيقية بالشارع المصرى.
ولم يكن لديه قوة سياسية جاهزة على الارض سوى قوى الاسلام السياسي، التى لطالما لعبت سياسة و تحفظ شروط اللعبة عن ظهر قلب. بل و لها مصادر تمويل لا حصر لها سواء داخليا او خارجيا. فكان من المستحيل ان لا تحصل على الاغلبية المطلقة فى الانتخابات البرلمانية و الرئاسية فيما بعد. و تولى محمد مرسي عيسي العياط مقاليد الحكم، شخص ابعد ما يكون عن طموحات الشعب و مخيب لاتجاهات رياح التغيير مما اجبر الكثيرين على المقارنة بينه و بين الرئيس مبارك و التى فى احيان كثيرة لم تكن لصالح موفد جماعة الاخوان بقصر الاتحادية. فبعد ان كانت دولة مدنية منذ دستور 1923 وجد المصريون انفسهم يتحولون الى دولة دينية بسرعة سحب رمال تغيير الاسلاميين التى كانت اسرع من الضوء. وإذا بالمصريين مجددا فى الشوارع و الميادين يطالبون المؤسسة العسكرية بالخلاص من اجرام و فشل الاخوان فى ادارة شؤون البلاد بعد اقل من عام فى الـ 30 من يونيو 2013. و يسقط الاخوان بعد بحور غريقة من دماء اطهر المصريين، و تنتهى سنة حكم رئيس المحكمة الدستورية المستشار عدلى منصور ليتولى الرئيس عبدالفتاح السيسي الحكم فى 2014.
جاء عبد الفتاح السيسي محملا بتركة مهترئة من الدمار الاقتصادى والخراب السياسي و التحديات الجسام. فعرف المصريون معه مدى قدرتهم على تجرع مرارة الاصلاح الاقتصادى و تذوقوا التعويم غير منقوص و تشربوا رفع الدعم عن الطاقة و المحروقات. كانت تلك الخطوات الجريئة من السيسي تأكل فى شعبية الرجل كما كانت تنحت فى قدرات المصريين الشرائية و بالتالى تصعب عليهم ظروفهم المعيشية. ووجدوا ايضا حدودا غير امنة مع ليبيا بفعل الثورة هناك و تداعيات الوضع الخطير على امن مصر ايضا. كما اصبحوا فى مواجهة مباشرة مع اثيوبيا وتعنتها لحرمان مصر من حصتها المائية. مشكلات وأزمات لم تكن فى اجندة اعمال نظام مبارك اما بحكم اختلاف الظرف السياسي و الزمانى. و لولا شجاعة السيسي و تصميمه على علاج كل تلك المشكلات من المنبع ما عبر المصريون ليصبحوا اسرع اقتصاديات افريقيا نموا.
ومع تعاقب ثلاثة رؤساء على السلطة كانت المقارنات معقودة فى اذهان المصريين، ان لم تكن معلنة فهى مدرجة فى سجلات ذكرياتهم مع حسنى مبارك دون ادراك و مع مشهد وفاته اجتروا ذكرياتهم معه: تذكروا بطل حرب اكتوبر، قائد الطلعة الجوية التى اتت بالنصر. و كانت السياسة بدوامتها لا تشغل لهم بالا طوال فترة حكمه الطويلة. و تذكروا استقرار امور الحكم و استبعاد شبح الحروب و اعادة العلاقات مع الدول العربية بعد مقاطعتها مصر اثر اتفاقية السلام مع اسرائيل فى 1979 . فكما كان الاستقرار هو ركيزة نظام مبارك طوال فترة حكمه، استقرت ايضا احوال الاقتصاد المصرى و ثبتت عند الديون مع ابقاء حال دعم الجنيه و الطاقة و رغيف العيش والتعليم و الصحة . امور حياتية مريحة للشعب مؤقتا لكن تضمن بقاءه فقيرا الى الابد. امور حملت بين طياتها راحة وقتية لم يتمتعوا بها فى التسع سنوات الماضية.
فبين قائد جريء يسابق الزمن ليعبر بالمصريين الى بر الرخاء و الامن و بين جاسوس مدنى منتخب، ايقظت وفاة مبارك نوستالجيا الحنين الى عهد كانت فيه مشاكلهم فى مهد الطفولة و وعيهم السياسي لم ينضج بعد. فمر امام اعينهم شريط ذكريات الثمانينات و التسعينات فتلاقت رغبتهم فى مرور كريم مع مشهد الجنازة العسكرية المهيبة لمبارك. أرادوا ان يوقظوا اجمل ما يحملونه عن فترة حكمه و يستثمروا رصيد حضارتهم القديمة عند الموت و قرروا انه يستحق ان يكرم فى دفنه طالما لم يبع الارض و لم يخن العرض و اسقطوا عنه ديون اخطائه التى سدد معظمها فى حياته . و رأوا فيه رمزا للحكم فى مصر دام 30 عاما من تاريخهم. فكان تصديرهم لمشهد الجنازة بغية الاصرار على موروثهم الحضارى فى الموت.
لا عجب من احتفاظ المصريين بذلك الرباط القديم عن الموت فهم اصحاب جينات متجانسة و مشاعر متآلفة على مر العصور.