السادسة و خمسة و أربعون دقيقة صباح 21 مارس في الطريق لاحتفال العيد القومي لناميبيا في ميناء سواكبموند .حملت معي رواية تحكي بداية قصة طبيبة محجبة تركت عملها في مدينتها المصرية الصغيرة لتدرس في الولايات المتحدة .بدا الكتاب و كأنه يعالج صراعا داخليا بين التقاليد و المشاعر و الأفكاروتناقضات مجتمعها و كيفية توائمها مع الحياة والعمل في الغرب من خلال وصف دقيق و حساس لمشاعر امرأة,سيكون عليها أنتتخير مستقبلها و أسلوب حياتها و أولويات قيمها وسط عالم معاصر يموج بتفاعل الحضارات, تصادما و حوارا.
و مع أن الطريق يستغرق ثلاث ساعات إلا أن طاقة غامضة غلابة دفعتني بعيدا عن الكتاب؛ كانت الشمس تتوارى خلف السحب ,أما ضوؤها فحاضر, و بدت السماء صفراء ثم فضية, والأرض يكسوها لون اصفر يتقاطع مع شجيرات بنية و بنفسجية و خضراء.
و ظلت جميع الالوان تتبدل دوما بروعة وتناسق مع موسيقى كلاسيكية مجرية خلابة, يصدرها شريط تسجيل سيارة, فتأسر المشاعر,و تشعل الأشجان من الحزن الإنساني الدفين إلى حيوية الفرحة و يقين التفاؤل, لتعاودني ذكريات سعيدة, أيقظتها موسيقى خفيفة مأخوذة عن أغاني شهيرة, ما زالت كلماتها محفورة في ذهني, فتملأني بمشاعر دافئة تنعش العقل والفكر والروح, يضاعفها شريط طبيعة متسارع متغير وجميل, يبهر العين بألوان وأشكال دائمة التبدل, تتحدى خيال كل فنان, و تخبرني بدوام وتعدد البدائل والحلول, وبأنه لا حدود ولا قيود على القدرة والطاقة والزمن و المسافات, وبأن الجمال و الطاقة و السعادة و الحب و الإبداع حولنا, ندركه إذا ما تفتحت حواسنا, وخرجت تماما للأبد عن سجن الذات إلى الحرية والسعادة بلا حدود في العالم الفسيح المترامي. و هو ما يعتمد على الاختيار الفردي الحر. كان يمكن للبعض, و أنا منهم, توقع أن يكون الطريق طويلا أو مملا, ولهذا أحضرت كتابا شيقا, لكن الحياة الحقيقية جاءت أكثر إثارة, و لم يرجع الفضل فقط إلى حالتي الذهنية أو لروعة الطبيعة و المناخ أو لتدفق مشاعر قوية و ذكريات حلوة مع موسيقى أخاذة, بل إلى الأهم ,لأنني كنت مع الله جاعل كل ذلك, فشعرت خلال ساعات الطريق أنني كنت أصليا بروحي متوحدا مشغولا بخلق و إبداع الله وجلاله و قدرته الخلابة.
كنت أحبه حقا و أمتلئ شوقا إليه. كانت الموسيقى في مسامعي, ولكني عشت الصمت والسكينة واللا زمن, حتى إن الساعات الثلاثة مضت و كأنها نصف الساعة, والسفر الذي أخذت كتابا من أجله كان من أعز و أحلى و أعمق أوقاتي. أدركت أنني كنت أصليا طول الوقت دون ركوع أو انحناء, و تفانيت في حب الله. فتضاءلت ملذات حياة لا يمكنها أن تطال شعورا, أخذني و جعلني على الأرض ضيفا من السماء, يحب كليهما, و يشكر الله في كل لحظة واعية دون ضغط أو قمع أو أداء لواجب, بل بشعور أصيل غلاب, هو التوحد و النشوة و الامتلاء و السكينة و الوعي و الحب و الاستغناء معا. إن 21 مارس كان أيضا يوما للروح.
سفير سابق وطبيبد/ هادي التونسي