مصطلح يثير التساؤل ، سمعناه منذ الصبا اشارة الى وعود نريدها أن تؤخذ على محمل الجد ، ونلقيها الى سامع متشكك لطمأنته ان أفلحنا ، بل ربما تظاهر السامع بتصديقها لقضاء مصلحة له فى حين ينصب الفخاخ امتحانا لما يسمعه قبل أن يحدث ، وربما كان بدوره – إذا تشكك في صدق القائل – يمنح كلمة هو أول من يعرف زيفها، ويبدو للطرفين كما لو كانت لعبة ذكاء ، يفوز فيها الأكثر خداعا وكذبا ، ليرضى بذلك الوحش بداخله الذى يملأ فراغه أو نقصه بكبرياء أو ثقة زائفة منبعها العدوان على الآخر إثباتا للذات.
هى ممارسة تكررت أنباؤها منذ الطفولة ، حينما رأينا رجل الشارع يتفاخر بذكائه حين صدقه سائح ، فاعتقد أن الأخير على تفوقه العلمى والثقافى والمعنوى أقل منه ذكاء لمجرد أنه كعادته فى التعامل مع بنى جلدته أخذ الحديث جدآ ، لايمانه بتمسكهم فى الغالب بجوهر الأخلاق ، وخاصة اذا ما تعلق الأمر بمعلومة بسيطة أو بتعامل لا ينتج عنه مكسب مادى يستحق عناء الكذب.
ولم يلفت نظر المواطن البسيط أن تصديق الآخر له احترام لكيانه وتكريم لانسانيته ، وان السائح الذى جاء صديقا محبا لبلده وحضارته فى الأساس ، لم يتعود الابتسام والترحيب نفاقا ، بل وربما فى حياته بين مواطنيه الصارمين المنصرمين الى أعمالهم ومصالحهم يتوق الى كرم وروحانية يتصورها فى أهل الشرق ، فجاء اليهم ليمارس تلقائيته ، وان سمحت الظروف له بالبقاء والعمل فى بلد يتصور أن الشمس أدفأت قلوب أهله فقد يجزل العطاء لفقرائه أو يعامل مرؤوسيه بأكرم مما يعاملهم مواطنوهم الأغنياء معنويا وماديا .
أتذكر فى أيام الطفولة أن تلاميذ المدارس حين كانوا يمارسون بعض ألعاب الخداع بغية المرح كانوا ينسبون أية منها لبلد معينة ، اشتهرت بتفوقها العلمى والاقتصادى والعسكرى والسينمائى .
وكأن التفوق لا يأتى الا بالخداع ، وكأن الثراء والقوة لم ينتجا عن عمل مضنٍ وابداع ونظام وقانون ، وبالتالى فليس علينا أن نجهد أنفسنا بأى من ذلك حتى وان أردنا لنا رفعة و لبلدنا نهضة.
هى اذن ممارسات تعودناها وكبرنا معها ، ظنناها شقاوة أو ذكاء أو مرحا أو شطارة وقوة ، ولكن ما هو الثمن ؟.
فى حين يكون التعامل سلسا فى دول اخرى ، يلتزم مواطنوها بالجدية والمصداقية والاحترام المتبادل ، نجهد عقولنا فى البحث عن النوايا الحقيقية والشكوك وفى نصب الشراك والانتقام والصراع فى مضيعة للوقت والطاقة ، يشعر المرء ـ ان صدق ـ بوحدة لا تلهيه عنها مظاهر خادعة أو مجاملات مصلحية ، ويتراجع الاحترام والتراحم فى مجتمع يضع القوة فوق الحق والمصلحة فوق المبدأ.
بذهنية كهذه اذا أراد الغرباء بنا خيرا بحثنا عن المؤامرة فيما يريدون ، واذا تحدثوا عن مثالبنا صراحة ظنناهم عنصريين كارهين ، واذا صمتوا عما يرونه متباعدين تنتابنا الشكوك أنهم نافرون باردون وربما يستهينون بنا فى قرارة أنفسهم.
ومع كل ذلك غالبا لايرى المخادع أكثر من مصلحته المباشرة المؤقتة ، ولا يحسب ما يعانيه اذا تبادل الأدوار مع ضحاياه ولا تعقيدات حياته فى مجتمع يتسامح مع الخداع أو يسميه شطارة ، وتضيع فيه مصالح الفرد بعيدة المدى بعد أن فقد مصداقيته.
ـ فهل هى اذن كلمة شرف ؟ أم أن الشرف كلمة قولا وفعلا ، وجسر يعبر عن الشعور ويصدقه العمل ؟