طوال تاريخ البشرية، كان الإبتكار العلمي والتكنولوجي دائمًا يقود التنمية في بلد أو أمة وبمثابة قوة مهمة لتقدم المجتمع البشري، لذلك يجب على الدول ذات الاقتصاد الذي يفتقر إلى القوة الدافعة للنمو، أن يجد مخرجا عبر الابتكار. من أجل ذلك تم تخصيص هذه المجموعة من المقالات لإستعراض مفهوم الإبتكار، وموقع مصر من المؤشر العالمي للابتكار مقارنة بالدول الرائدة به مثل الولايات المتحدة والصين، وتفاصيل الإنفاق الحكومي لهذه الدول على البحوث والتطوير والسياسات التي اتخذتها للنهوض بالابتكار ومردوده على الاقتصاد، وأيضا استعرضنا استثمار الشركات في الإبتكار وأثره في جعلها شركات عملاقة تحقق أعلى الإيرادات ورائدة للتكنولوجيات الحديثة على مستوى العالم وأثر ذلك في النهوض بإقتصاد الدول، وسوف نستعرض في مقالنا الختامي ملامح السبيل لمشروع قومي للإستثمار في الابتكار، وفي بداية حديثنا يجب أن نؤكد على الآتي:
أولا .... يجب أن يترسخ في الأذهان أن المخترع يحتاج لدعم الدولة، لذلك لا يجب تحميله بأعباء باهظة في سبيل تسجيل وحماية وتنفيذ إختراعه، وأن مكسب الدولة يكون في النشاط الجديد الذي سوف يقدمه الإختراع لسوق العمل الأمر الذي سيعود بعائدات اقتصادية للدولة.
ثانيًا .... عندما ننظر للبلاد الأجنبية حيث يقوم بها الناس بوهب أموال لتمويل أبحاث علاج أمراض أصابتهم أو أصابت أحباءهم، وهذه التبرعات تدخل ضمن نفقات الممول وتعفى من الضرائب.
أما في مصر والبلاد العربية فيتم وهب الأموال للمستشفيات ودور العبادة والمؤسسات الخيرية، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: أيهما أولى، التبرع للمستشفيات لعلاج المرضى، أم التبرع للعلماء والباحثين لوقاية الناس من المرض أصلا؟
من المؤكد أن المستشفيات تستحق التبرع حتى يشعر الغير قادر بوجود من يرعاه، الأمر الذي يؤدي إلى تماسك المجتمع، ولكن الوقاية خير من العلاج،وهذه حقيقة لا تقبل الجدل:
ولنأخذ مثالًا على ذلك:
تمتلئ المستشفيات في جميع أنحاء البلاد بمرضي الفشل الكلوي والكبدي والمناعة والحساسية والسرطان، وهي من الأمراض التي تتكلف مبالغ طائلة لا في علاجها (لأن مريضها يظل مريضًا طيلة حياته ولو حتى قام بزرع كلى أو كبد) ولكن لمجرد جعل حياته أفضل ولو جزئيًا، ونعلم جميعًا أن من أهم أسباب هذه الأمراض وغيرها الاستعمال المفرط للمبيدات والكيماويات خاصة في مجال الزراعة.
فماذا لو دعمنا العلماء والباحثين الذين يسعون لتخليص الأمة من هذه المتاهة الرهيبة؟
-ألن نقلل عدد الأسرة في المستشفيات؟
-ألن نوفر مبالغ طائلة اللازمة لإستيراد أدوية ومعدات صارت أسعارها خيالية في زمننا هذا؟ ونزيد من قدرة المجتمع على الإنتاج بأفراد أصحاء.
فعلًا الدولة (حكومة وأفراد) بحاجة إلى إستيعاب الجدوى الإقتصادية للإبتكارات وأهميتها للتقدم، وأن التقصير في رعاية الإبتكارات يحرمنا من المردود المجزي لكثير من هذه الابتكارات على الإقتصاد القومي.
هذا ومن أجل السعي في سبيل مشروع قومي للاستثمار في الإبتكار من خلال سعي الدولة لحل مشاكل المخترعين وتلبية احتياجاتهم من خلال الآتي:
المرحلة الأولى: باحث طرأت له فكرة جيدة والتي تعتبر بداية الإختراع، كيف تساعده الدولة لتحويلها لإختراع مع المحافظة علي سريتها (فمن الضروري عدم عمل مسابقات للأفكار إلا التي تم تسجيلها أو ثبت عدم صلاحيتها للتسجيل، لحماية الأفكار المبتكرة من السرقة)، وذلك من خلال قيام الدولة بتيسير المعلومة وتوفير قواعد البيانات اللازمة لمساعدة الباحث في التأكد من تفرد فكرته، ثم تبدأ الدولة في المرحلة الثانية بتقديم الدعم الكامل ولكن بعد الإنتهاء من مرحلة الفحص الفني بمكتب براءات الإختراع للتأكد من جدة وإبتكارية الفكرة قبل دعمها، وهو ما تطبقه فعلا بعض الدول.
وتكون خطوات المرحلة الثانية من الدعم المطلوب أن تقدمه الدولة كالأتي:
-تقديم الدعم المادي الكامل بالقدر الكافي لتمويل تنفيذ الإختراع.
-توفير الإمكانيات البحثية والمعملية والتطبيقية بالمعاهد والمراكز البحثية والجامعات اللازمة لتنفيذ الإختراع.
-توفير طواقم من الباحثين المتخصصين لمساعدة المخترعين سواء لسرعة إنجاز خطوات تنفيذ الإختراع، أو في حل مشكلة ما تعوق الإنتهاء منه.
-توفير الخبرات الصناعية والإمكانات التصنيعية لتنفيذ الإختراع في صورة منتج مناسب للطرح في الإسواق طبقا وإحتياجات السوق وذوق المستهلك.
-توفير الخبرات التسويقية لتسهيل تحديد الشرائح والأسواق المستهدفة بالاختراع.
-توفير الخبرات المالية لإجراء دراسات الجدوى المختلفة للإختراع.
-استحداث مبدأ نقل التكنولوجيا للخارج في حالة أن يكون الإمكانات الحالية غير متوافرة لتنفيذ الإختراع محليا مع توفير كافة إجراءات حماية حقوق المخترع بالخارج.
وذلك بالإضافة إلى التوصيات الأتية:
- إنشاء وزارة منفصلة للعلوم والتكنولوجيا أسوة بدولة الصين التي أصبحت الآن دولة رائدة في هذه المجالات.
- زيادة الإنفاق الحكومي على البحوث والتطوير لما يصل إلى 3.6% (بدلا من 1.2%) من إجمالي قيمة الموازنة العامة للدولة أسوة بدول العالم المتقدمة، نظرًا لأن المخصصات الحالية للبحث العلمي لا تحقق أي مردود إقتصادي.
- حصر المشاكل والموضوعات التي تهم المجتمع وتحتاج فعلا لبحث علمي بمختلف المجالات لحلها، ويوضع لها تسلسل مرحلي متدرج، ورصد الميزانيات الغرض منها أن ينتهي بتطبيق عملي على المجتمع ذاته مما يجعل للبحث العلمي أثر وتأثير فاعل على المجتمع ومفرداته، الأمر الذي سيفتح باب التسابق في البحث العلمي في مجالات لخدمة المجتمع بشكل علمي متطور.
- مضاعفة وتنويع برامج التمويل التي تقدمهما أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، ورفع قيمة التمويل للمتقدمين لهذه البرامج، بحيث يغطي تكلفة تمويل الإختراع وتكون الأولوية للاختراعات الحاصلة على براءة إختراع وذات بعد اقتصادي أو بيئي أو صحي وتحل مشاكل بالمجتمع.
- دعم وتمويل إنشاء المزيد من الشركات والصناعات التكنولوجية ذات الطابع الإبتكاري كجزء من الإنفاق الحكومي على البحث العلمي، وتعويض مخاطر طبيعتها الناشئة وتقديم إعفاءات ضريبية لها، والتي سوف تصبح مستقبلا الداعم الأساسي للبحث العلمي في مصر، أسوة بما تم بالولايات المتحدة والصين حيث أصبح القطاع الخاص هو الممول الرئيسي (بنسبة تتجاوز 75%) والقائد لقطار البحث العلمي والتنمية بهما.
- جعل نسبة 50% من قيمة الإنفاق على البحوث والتطوير للباحث والمخترع الحر المتواجد خارج الجامعات والجهات البحثية الحكومية وذلك تحت إشراف أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا.
- إعداد برامج متكاملة لتأهيل الشباب على البحث العلمي والإبتكار وحماية الملكية الفكرية.
- الإبراز المكثف لدور الكفاءات العلمية المصرية وعرض إنجازاتهم في حل مشاكل المجتمع وجعلهم محل إهتمام وشهرة لتنمية الأسوة والمثل لجيل المستقبل من الشباب والأطفال للإقتداء بهم.
- تكليف الجهات المختصة بعمل فعاليات تهدف لتنمية الفكر الإبداعي لدي الطفل، مثل مسابقات المواهب ومسابقات الاختراعات والمسابقات الفنية، ثم تولي الفائزين في هذه المسابقات ببرامج تهدف تنمية مواهبهم ومخترعاتهم.
- قيام الوزارات المختصة بإعداد برنامج توعوي لرجال الصناعة في مصر متضمنا أهمية ربط الصناعة بالبحث العلمي و أثر ذلك في تطورها، من خلال تقليل الفاقد وتكلفة الإنتاج، وزيادة العائدات، وتعظيم نسبة المكون المحلي وتقليل الاعتماد على الخارج، والعرض عليهم بمقترحات متنوعة لتطوير الصناعات المختلفة في مصر بالتعاون مع الخبرات المختلفة بالجهات البحثية والجامعية، أسوة بما تم سابقا في صناعة السيراميك التي أصبحت الآن صناعة عالية التطور بفضل التعاون مع الكوادر العلمية بجامعة القاهرة، مع إبراز أهمية تفعيل دور إدارات البحوث والتطوير بها لأن ذلك سيكون عصب إزدهار الدولة مستقبلًا.
بالإضافة إلى العمل على إقرار التشريعات الأتية:
-أن يعادل تسجيل براءة إختراع واحدة كنشر ثلاث أبحاث علمية في دوريات علمية دولية، وذلك حتى يشجع الباحثين على تسجيل براءات الإختراع لحماية حقوق الملكية الفكرية لمخرجاتهم العلمية، وأن يأتي نشر الأبحاث في مرحلة لاحقه بعد التسجيل أسوة بما يتم بدول العالم الأخرى، عوضا عن ما هو قائم حاليا بتسارعهم لنشر مخرجاتهم العلمية في الدوريات العلمية الدولية سعيا للترقي في الدرجات العلمية المختلفة، وعزوفهم عن تسجيل براءات الإختراع لأنها لن تمثل لهم إلا عبء مادي بدون عائد ملموس، وتكون النتيجة تصدير أفكارهم مجانا لدول العالم الأخرى بدون أي حماية لحقوق الملكية الفكرية.
-أن يتم خصم قيمة تبرعات تمويل البحث العلمي من الأعباء الضريبية على الشركات ورجال الأعمال أسوة بما يتم في تمويل الأعمال الخيرية لبناء دور العبادة والمراكز العلاجية، الأمر الذي سوف يشجع الشركات ورجال الأعمال في انتهاج سياسات تمويل ودعم البحث العلمي، مما يعمل على رفع جزء من العبء على الدولة في تمويل البحث العلمي وتسريع التطور العلمي والتكنولوجي بها، وذلك أيضا أسوة بما يتم في الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة من مؤسسة بيل وملينا جيتس المملوكة للملياردير بيل جيتس المالك لشركة مايكروسوفت حيث تمول هذه المؤسسة سنويا بمليارات الدولارات البحوث والتطوير في مجالات الصحة والتعليم وغيرها، وهذه المخصصات لا تدخل ضمن مخصصات البحث العلمي بالميزانية العامة للدول بل تعتبر إضافة عليها.
وفي الختام، لا يجب أن ننسى أن مصر منذ مهد التاريخ هي التي علمت العالم معظم العلوم النافعة، كصناعة النسيج والخبز والأثاث والبناء والزراعة وتدجين الحيوانات والطيور وغيرها الكثير. أجدادنا كانوا هم من إبتكروا وسائل الحياة الكريمة والرفاهية وعلموها للعالم، فلنسعى لأن نحيي مجدهم ونكون خير خلف لخير سلف.