سألت الأم الحانية الراعية المثالية المتفانية المثقفة طفلها أين أجنحتك يا ملاكي؟ فرد بأنها "الأجنحة المتكسرة"، و كان ذلك فيما بعد عنوان أحد أهم مؤلفات الكاتب الشاعر الرسام.
عاني طفل من قسوة و شراسة و تجاهل أبيه السكير قبل سجنه لفساده، فكان كتابه عن "الأرواح المتمردة" التي عايشت أيضا حتي بدايات القرن العشرين في لبنان سيطرة الكنيسة و الإقطاع .
كانت نفسه تنزع الي الكمال فجاء كتابه "النبي"، و "حدائق النبي" ضمن غيرهم، لكن ذلك لم يكن فحسب وليد التأمل الصامت في بشري بلدته العتيقة بجبل لبنان بين صوت الرياح و بهاء الثلوج و بلات المطر و شموخ الجبال و روائح الشجر و عطر الزهور و تراوح الأضواء و الألوان و الظلال بين الجبال و المروج و الوديان و الأنهار و وجوه البشر، بل ثمرة اطلاع واسع علي أساطير الأولين و الأديان و الفلسفات الرومانسية و المتصوفة و كتابات أفلاطون وداڤنشي و ڤولتير و روسو و شكسبير و عديد الشعراء و المصورين و الرسامين، و قبل ذلك الألم العظيم لوفاة والدته التي يقول انه ورث شخصيتها بعد سجن الوالد و هجرتها بأطفالها الي بوسطن؛ ذلك الألم العظيم الذي طالما صنع إعلام الفكر و الفن و الحضارة.
و هكذا هاجر جبران خليل جبران،ثم عاد، ثم هاجر، و كانت دراسته بين امريكا و بيروت و پاريس التي أوفدته اليها سيدة امريكية راعية لدراسة الرسم بعد ان لفتت موهبته الأنظار ، لكن طموحه و نزعته الانسانية تعدت مجال الرسم الي مؤلفات إنسانية ترجمت الي مائة و عشرة لغة و أقيمت لها الشواهد و المتاحف و المعاهد في قارات العالم لتصبح حتي قرابة قرن من وفاته نبراسا للإنسانية ممن احتوي الجميع في قلبه و امتلأ وجدانه بالحب و كيانه بشمول الانسانية.
علمنا جبران خليل جبران أن الحب لا يعطي الا ذاته و لا يأخذ إلا من ذاته،و لا يملك، و لا يُمتلك، و يوجهك لو كنت جديرا به،و ان العطاء الخالص يتعدي دوافع الفرح و الحسرة و الواجب ،و ألا نقنع بأنصاف الحلول و المواقف،فالنصف هو لحظة العجز و أنت لست نصف بل إنسان كامل،و أن البيوت مظلمة حتي تستيقظ الأم، و أنها القوة في الضعف،و العزاء في الحزن، و الرجاء في اليأس ،و أن الغني هو من يحتاج الأقل، و أن الصمت لغة و سلاح فائز في الوقت الملائم، و أن الإنسان بالجوهر ، و أن الثقة أعلي مراتب الحب،لأنها تجعلك تعطي بلا تردد،و ان الضعف جزء من الانسانية،و أن العظماء صنعهم ألم ترك فيهم ندبات، و عرف عن جبران رومانسيته من خلال مراسلاته بالأديبة مي زيادة و التي امتدت سبعة و عشرين عاما حتي وفاته، و من أقواله أن الحبيب ليس نصفك الآخر، بل هو أنت كلك في مكان آخر في نفس الوقت.
لم تكن عمق و شفافية و نضج شخصية جبران و ثقافته الموسوعية لتقتصر انتاجا علي مجرد حكم و مثاليات ينظمها في شعر نثري و كتابات رومانسية و فلسفية و خطوط لوحاته المعبرة، بل تناول قضايا الحرية و السيطرة الأجنبية و الإستبداد و المؤسسات الدينية و الدولة المدنية و تسييس الدين و الاضطهاد و الفقر و الفساد و القمع و المرأة و الحب و حرية الاختيار و حق الاختلاف و التسامح.
شهرة جبران كالمعتاد لنوابغ العرب كانت اكثر بدءا من امريكا التي توفي فيها عام ١٩٣١، و أكثر مما في البلاد العربية، رغم انه عاش بانتماء لروح الشرق، و أن أفكار قضاياه ووصاياه مازالت محل احتياج لدينا حتي عصرنا الحالي ، و رغم انه كان مارونيا و كتب ضد الحكم العثماني الذي طبقا لتقديره نكل و قتل ربع مليون مارونيا، الا إنه قال إنه شرقي الأخلاق لبناني الهوي، و كتب رسالة للمسلمين إنه يحب الإسلام و نبيه و مجده ،و إن بقلبه يسوع و محمد ،و يتمني أن ينتصر الإسلام علي أعداء الداخل، حتي لا تقع بلاده في أيدي الغرب.
و حذر فيما عرف بويلاته التسعة الأمة من الإنصراف عن الدين الي المذاهب، و من تحمل المظالم و التكاسل عن الإنتاج، ومن النفاق و الاستبداد.
و قال "أنت أخى و أنا أحبك.. أحبك ساجدًا فى جامعك وراكعًا فى هيكلك، ومصليًا فى كنيستك، فأنت وأنا ابنا دين واحد هو الروح، وزعماء هذا الدين أصابع ملتصقة فى يد الألوهية المشيرة إلى كمال النفس».
و كما لو كان يشعر بالاحتياج المستمر لإنسانيته الشاملة ،أوصي جبران ان يكتب علي قبره: أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فاغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك.