بسعادة غامرة تلقيت دعوة كريمة من الأستاذ الدكتور رضا الدقيقى أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين والدعوة الإسلامية بطنطا، لحضور مؤتمرها الدولى الأول المنعقد بها يومى الاثنين والثلاثاء الثالث والرابع من فبراير الجارى، تحت عنوان "دور الأزهر الشريف في الإصلاح والتجديد ومواجهة الفكر المنحرف"، والذى يأتي تحت رعاية فضيلة الامام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الازهر، وفضيلة الدكتور محمد المحرصاوى رئيس جامعة الازهر، والدكتور طارق سلمان نائب رئيس جامعة الازهر للدراسات العليا والبحوث، والدكتور محمد الأمير نائب رئيس جامعة الازهر للوجه البحرى، ورئاسة الدكتور أحمد إسماعيل أبو شنب، وبإشراف الدكتور أحمد عجيبة، والدكتور فتحى الزغبى أمينا عاما للمؤتمر، والدكتور رضا الدقيقى مقررا له.
والحق أن سبب سعادتى الغامرة تكمن في تبنى أزهرنا الشريف -كأكبر مؤسسة دينية اسلامية في العالم أجمع عامة، والعالم الاسلامى خاصة، وجميع كلياته المختلفة- لهذه الجهود الإصلاحية، التجديدية، الإصلاحية، التنويرية، الرامية الى تجديد فكرنا الاسلامى، ومجتمعاتنا الإسلامية من كل فكر منحرف يشوه الصورة الطبيعية لديننا ومعتقداته وفكره وعلمائه ورموزه، وتضع حلا -لا أقول دفاعيا- عن كل ما سبق من تشويه متعمد من فئات وفرق ضلت الطريق، وانحرفت بمعتقدها الفاسد عن سبيل ديننا القويم، إذ ليس في إسلامنا، ومعتقده، وفكره، ما يشوبه من عورة نسارع في تغطيتها وسترها من عين الشانئين والموتورين.
يأتي مؤتمر كلية أصول الدين والدعوة الإسلامية بطنطا، "دور الأزهر الشريف في الإصلاح والتجديد ومواجهة الفكر المنحرف"، بعد أيام قليلة من ختام مؤتمر "الأزهر الشريف وتجديد الفكر الاسلامى" العالمى بالقاهرة، ليضع هو الآخر لبنة جديدة من لبنات هذا التجديد والإصلاح، وليمثل درعا جديدا في مواجهة هذا الفكر المنحرف الذى ابتليت به أمتنا الإسلامية، وصار أداة مقصودة يترصد به لنا أعداؤها، ويتلقفه الحاقدون على ديننا كما ذكرت آنفا، فتتكئ محاوره متسقا ومتماشيا مع عنوانه، فيشمل ستة محاور، أولها فلسفة الإصلاح والتجديد في الإسلام، وثانيها: دور الازهر الشريف في تجديد علوم الدين واللغة، وثالثها: دوره في الإصلاح السياسى والاجتماعى والتربوى منذ نشأته وحتى تاريخه، ورابعها: دوره في إصلاح وتجديد أنظمة ومقررات التعليم، وخامسها: دوره في الانفتاح العالمى، وسادسها: دوره في إرساء الوسطية ومواجهة الفكر المنحرف.
وقضية التجديد والاجتهاد في فكرنا الاسلامى من القضايا عظيمة الأهمية، إذ العلاقة بين التجديد والاجتهاد، كمن يطمح الى بناء بيت من الرمال، إذا طلب التجديد دون تبني الاجتهاد كمنهج لاستخراج الحكم الشرعي من النص الديني.
ذلك أن ديننا يتصف بالفكر المتجدد، المتدفق، ولم يكن له أبدا ان يتلاءم ومنهج الجمود؛ حيث المدقق في شريعتنا وعقيدتنا يرى يقينا أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا في القرآن الكريم، في الكثير من المواضيع على التأمل، والتدبر، والتفكر في كل شيء يحدث حولنا، ابتداء من النظر والتبصر في أنفسنا، مرورا بالنظر الى تعدد مظاهر الكون الفسيح؛ لنتعرف على مواطن الاختلاف، والتنوع، والتعدد، مما استلزم هذا الامر منا تبني منهج التجديد، والتطوير، والتفكر، والاجتهاد.
وأرى أن أولى خطوات التجديد إعمال العقل في فهم النص الديني، لما له من دور رئيس في قضية تجديد فكرنا الدينى، وإعلاء قيم الإصلاح والتجديد، ومواجهة الفكر المنحرف، وإلا تحول هذا الفكر الى صراع دام، يحرق كل من اختلف معى في فكرى، وهذا ما اعتنقه المتطرفون والجماعات المتشددة فكرا وعقيدة، وما يومئ اليه مؤتمرنا المزمع عقده، ومؤتمرات مؤسسة الأزهر الشريف السابقة ويحذر منه.
يصدقنى في هذا الباحثان الدكتور صالح نهير الزاملي، والدكتورة اسيل عبد الكريم الشمري الاستاذان بكلية التربية جامعة واسط، في بحثهما المعنون " الخطاب الديني: منهجية التجديد"، إذ يقولان: " إننا إذا ما عطلنا أو أغفلنا دور العقل في فهم النص الديني، فإننا سنكون عاجزين عن مواجهة الآخر أو التكيف معه، وهذا يعود الى إهمالنا منهج الحوار الفكري، واعتمادنا القوة وحوار السيف بديلا عن حوار العقل والفكر، وهذا ما ذهب اليه بعض المفكرين المعاصرين كما جاء على لسان أحدهم: إن ما نراه في أوساط المتدينين من إضفاء القداسة والاطلاق -التي تميز الدين كمنهج عملي وفكري في الحياة عن باقي المناهج الأخرى- على تصورات الانسان عن الدين نفسه، مع انها تصورات "زمكانية" تتحدد بظروفها، وبنسبية قدرتها، وقابليتها على التطبيق وبنسبة الخطأ الواردة فيها.
محذرين أن الأخطر من ذلك، توهم البعض أن ما توصلوا إليه إنما هو عين الدين وحقيقته، لا بل ويذهب البعض الى ان الشخص الذي يعتقد الاعتقاد هذا لهو مثال المتدين الحق، وعند ذلك تتناسل أفكار التكفير، والرمي بالفسق، والفجور، والبدعة والضلالة فضلا عن اباحة قتل الآخر واستحلال عرضه وماله.
وكم كان مصيبا مؤتمر الازهر الشريف العالمى لتجديد الفكر الاسلامى الأخير حين شدد على أن التيارات المتطرفة، وجماعات العنف الإرهابية يشتركون جميعا في رفض التجديد، ودعوتهم تقوم على تدليس المفاهيم وتزييف المصطلحات الشرعية، مثل مفهومهم عن نظام الحكم، والحاكمية، والهجرة، والجهاد، والقتال، والموقف من مخالفيهم، فضلًا عن انتهاكهم ثوابت الدين بما يرتكبونه من جرائم الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض، وهو ما شوَّه صورة إسلامنا وشريعته عند الغربيين ومن على شاكلتهم من الشرقيين، وتسبب في ربط الكثيرين بين أفعالهم المنحرفة وبين أحكام الشريعة، و رواج ما يسمى بـ«الإسلام فوبيا» في الغرب، ومن ثَمَّة فإن واجب المؤسسات والمجتمع دعم جهود الدول في التخلص من شرور هذه الجماعات.
إننى أستطيع الجزم مؤمنا أن دراسة علمائنا المتكررة المباركة لواقع حضارتنا وفكرنا المعاصر لعالمنا الاسلامى، والأسباب التي وضعته في موضعه الحالي، ومخاطر هذا الوضع والمنطلقات التي تصحح مسار أمتنا وفكرها، سنخرج منها بحقيقة جلية مفادها أن ديننا قادر على العطاء، زاخر بفكره وتوجيهاته الحية السادرة التي تميز بين الخبيث والطيب، وبين الحق والباطل، غنى بأسباب التقدم والازدهار الفكرى التي يمكن من خلالها نهوض المسلمين من كبوتهم، واستيقاظهم من غفلتهم وسباتهم، ومحاربة من يشوهه وفكره، لأن أمتنا الإسلامية مطالبة جميعا بالنهوض بمسئوليتها الخطيرة والنبيلة في آن واحد.
صفوة قولى: إنه إذا كان الطريق طويلا والجهد شاقا، فحسبنا وعلمائنا إلقاء الضوء على جنبات الطريق، وبدء الخطوات الجادة صوب هذه الغاية في عزيمة وإصرار وثبات، شريطة إحسان التعامل مع ديننا وفكره، واستمساكنا بتعالميه، لنعيد مجدنا الغابر وحضارتنا وفكرنا التنويرى التليد، ويقينى أن هذا ما يصبو ويسعى إليه علماؤنا ومؤسساتنا الإسلامية العلمية والفكرية في كل زمان ومكان، وآخرها مؤتمر كلية أصول الدين والدعوة الإسلامية بطنطا، "دور الأزهر الشريف في الإصلاح والتجديد ومواجهة الفكر المنحرف".
الله أسأل أن يحفظ علينا ديننا، وأن يبارك في مصرنا وعلمائنا، وأن يصحح مسار وفكر من ضلوا الطريق والسبل الجادة..إنه ولى ذلك والقادر عليه.. والله من وراء القصد.