قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

صدى البلد

رداء الأم

×

هل يمكنك أن تعيش مشروعا يحقق هدف آخرين؟ هل يعوضك التألق والنجومية والجمال والرغد عن أن تكون فطرتك و هويتك الحقيقية؟ لماذا تفشل علاقات الحب إذا كنت تتمتع بكل ما تتمناه من مواهب وماديات؟
مثل كثير من الأطفال نشأت الممثلة العالمية الجميلة النمساوية الأصل الفرنسية الهوى رومي شنايدر طفلة تتشدد والدتها الممثلة الألمانية الأصل في تربيتها، أملا أن تكون أيضا ممثلة شهيرة، وامتدادا لها يحقق ذاتها، و لما لا و الابنة فائقة الجمال، و كل أم تحب أن تكون ابنتها مثالية، وخاصة أن الأم تستطيع نقل خبراتها الفنية إليها!
الأم بطموحها البالغ وتفانيها وصرامتها أورثت طفلتها التوتر والقلق والخوف من الفشل، فلا شئ يجب ألا يعوق النجاح المضمون، ولا رغبة طفولية يمكن أن تعطل هذه الموهبة الصاروخية الصاعدة التي عاشت جانبا من صباها في ألمانيا، وهكذا كانت رومي نسخة فائقة الصنع، حتى لو لم تعش إنسانيتها الحقيقية. و زاد الأمر سوءا طلاق الوالدين و وفاة الأب ثم زواج الأم من رجل مستبد جشع، بدلا من أن يعوضها حنان الأب المفتقد حاول أن يعتدي عليها جنسيا، و ضاعف سيطرة الأم، التي قالت عنها رومي فيما بعد أنها كانت على علاقة بهتلر.
القناع المبهر الذي اشتهرت به رومي شنايدر كان لممثلة عالية الحيوية والحضور والعفوية، تتميز بطراوة وكفاءة في أفلام صاخبة بالمرح والحيوية، وبعضها لأشهر وأجمل ملكات النمسا، والآخر لفتاة حداثية منطلقة ثم امرأة ناضجة جذابة طاغية الأنوثة ذات ملامح مشرقة بأمل يشع من عينيها ونظراتها، وابتسامتها التي يمكن أن ترتسم خلال جزء من الثانية مهما كانت أحزانها. واستغلت إمكانياتها القصوى من حركة الجسد إلى تعبير الوجه إلى قوة النظرات في أفلام تمتلئ بالسعادة والمتعة والانطلاق. وبدت رومي شنايدر كممثلة من نوع استثنائي، تمتزج لديها الحياة بالفن، والفن بالمتعة، والمتعة بالعلاقة مع الجمهور. وقالت إنها «خلقت لتكون ممثلة» وأن هذه المهنة تعطي صاحبها مقدار ما يعطيها، شرط أن يخلص لها ويجعلها حياته وهدفه. ورومي باندفاعها وأخلاقها الطيبة وإقبالها على الحياة، كانت طبعا مستعدة لأن تخلص لفن التمثيل وتمنحه حياتها وأيامها ولياليها.
أصبحت رومي عالمية الشهرة، و اقترن مظهر السعادة الدائمة في أدوارها بصورة شخصيتها، ورغم أنها كانت على علاقة غرامية طويلة بالنجم العالمي الأشهر آنذاك آلان ديلون إلا أنها لم تقصر أدوارها على تلك الرائعة المقترنة به، وانفصلا. وكان عليها أن تفكر في مستقبلها كامرأة، فاقترن اسمها بالمخرج كلود سوتيه الذي أحسن الاستفادة من جمالها الاستثنائي وقوة التعبير، وتوالت العروض، وكانت الوتيرة من التسارع بحيث راح كثيرون يتساءلون: ترى هل تحاول رومي أن تهرب من شيء ما عبر العمل والغرق في العمل؟
كانت الأفلام تتابع بشكل كان من شأنه أن يفرح أي ممثلة أخرى، لكن رومي لم تكن سعيدة. فهي التي كانت تأمل في أن تعيش حياة هادئة، بدأت تلاحظ أن كل شيء في حياتها يميل إلى الفوضى. فلا استقرار في مكان، ولا في زواج، ولا في نوعية معينة من الأدوار، وبدأت تقول: «ذات يوم سوف أوقف كل شيء! ذات يوم سوف أرتاح».
في أواخر السبعينات فازت رومي بجائزة سيزار الفرنسية لأفضل ممثلة، و كانت فرحتها مضاعفة لأنها رزقت بابنها ديڤيد، لكنها كانت قلقة حتى دون أن تدري أن الموت قرر، منذ ذلك الحين، أن يبدأ بزيارتها، تعاستها في ذلك الحين كانت عاطفية. وهي عبرت عن ذلك بقولها لصحفي سألها عن السعادة في العام 1979: «إن كل الظلال قد ابتعدت عني» وحين سألها الصحفي أي ظلال؟، أجابت بابتسامة شاحبة: «ظلال الرجال الذين قالوا لي يوما إنهم يحبونني، ثم لم يعطوني أي شيء. وظل العصاب الذي أجبرني على تناول الأدوية للإبقاء على رأسي باردا حتى أتمكن من متابعة العمل. أنا لم يسبق لي أن كنت في حياتي سعيدة كما أنا اليوم».
غير أن الصحافي الذي كان يتلقى منها هذا الاعتراف سيقول لاحقا إنه لاحظ حزنا كبيرا في عينيها في اللحظة نفسها. وتذكر أنها قالت له على الفور: «لقد كنت في الماضي أعيش في هاجس أن يغدر بي أحد ما، أو يتركني شخص ما. كان كل ما حولي يقول لي إن سعادتي في خطر». من الواضح إذن أنها ليست سعيدة. ولا تحس أن السينما قادرة على إعطائها السعادة المرجوة.
وحدة الطفل دايفيد الذي وضعته في العام 1978، ثم أخته سارة، كان عزاءها في الحياة. تعمل من أجلهما، تركض من أجلهما، وتتمنى أن يكون حين تكبر ويكبران، أحن عليها من الرجال الذين ما عرفوا أبدا كيف يحتفظون بها، وكيف يعطونها حنانا كان من الواضح أنها تفتقر إليه.
أصيب ابنها ديڤيد بجرح بسيط، و فاضت روحه أثناء عملية جراحية عادية، ورومي بعد بكاء اليوم الأول والنحيب خلال الأيام التالية، أخلدت إلى صمت مذهل. لم تعد تريد أن ترى أحدا. لم تعد تريد أن يكلمها أحد. أحست من جديد، حين رحل دافيد أن رجلا آخرا يغدر بها ويتركها. كثيرون من أصدقائها حاولوا الدنو منها ولا سيما لوران، رفيقها في ذلك الحين، لكنها كانت تبتسم لثوان ثم تخلد إلى الصمت من جديد. توقفت عن العمل. توقفت عن اللهو. توقفت عن التفكير. وبدا واضحا أنه لم يعد لديها شيء تعيش من أجله. و أثناء عروض مسرحية تالية وضح أنها أصبحت امرأة منتهية. فالصمت الطويل الذي كانت تخلد إليه، كان أعمق من أن يكون مجرد حزن على طفلها الراحل. كان بالأحرى حزنا عليها هي نفسها، حزن الكثيرون، ولكن لم يفاجأ أحد. فهي كانت انتهت منذ زمن؛ قبل أن ترحل جسديا عن عالمنا في سن الأربعة والأربعين فيما يشبه الانتحار البطئ بحزن عميق، تزايد منذ وفاة ابنها، فالذين عثروا عليها ميتة في ذلك الصباح لاحظوا أن ذاكرة كثيفة كانت تسكن ملامح وجهها وعينيها الجامدتين.
سيرة رومي شنايدر ترجح انها كانت صورة متقنة من صنع والدتها، تفانت هي في العيش بها و نشرها من خلال أفلام صدقها الناس، وتوقع الرجال الذين أحبتهم أن يجدوها على شاكلتها، لكن داخلها كان هناك خوف أن يسقط القناع، فيتركونها لما تتصوره غدرا، خوف أن يظهر اضطرابها في أدوارها فلجأت لمهدئات، خوف ألا تستطيع يوما أن تكون نفسها في حياة أسرية هادئة، تنعم فيها بهويتها الفطرية، وتحصل من أبنائها على حنان بخلت به عليها أمها الصارمة، وزوج الأم المستغل، فالأم لم تكن لها حبا حقيقيا يسمح لها أن تكون على سجيتها حرة مستقرة، بل كان حبا متملكا يشترط ان تكون وفق رغبتها. الأم لم تعرف أن من حق كل امرأة أن تكون نفسها، ولم تعرف أن الافتعال يولد التوتر والتعاسة، وينكشف مع المخالطين، ولم تعرف أن أبناءنا ليسوا ملكا لنا، وأنهم خلقوا لعالم غير عالمنا، وأن لكل منا رحلة حياة خاصة، لم تعرف أن تزاوج بين التعليم و الحنان، وبين الصرامة والاحتواء، فتركت ابنتها مرعوبة في وحدة قاسية، تخشى أن يتخلى عنها الرجال من أول الأب المطلق إلى الطفل الميت مرورا بالأزواج الثلاث والعشاق الذين مروا بحياتها، ولم تعلم الأم أن هناك فارقا بين النجاح والثراء والمتعة من ناحية و السكينة والنضج والسعادة الحقيقة من جانب آخر. فما جدوى حياة تبدو على السطح ناجحة، بينما ندرك في العمق أنها فشلت، وأن النجاح لم يكن لجوهرنا بل لصورة مزيفة مرغوبة، لم تعطنا احتياجنا من الحب الحقيقي والحنان السخي و التواصل الصادق.
رومي شنايدر أبهرت العالم بفنها، وعلمته بدروس مأساة حياتها.