ينكر البعض الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سماع الموتى لكلامه - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أنه قال: «اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل القليب فقال: وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فقيل له: تدعو أمواتا؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون».
ويزعمون أن هذا كلام باطل لا يصح، وهو أشبه بالخرافات، ويستدلون على بطلان هذا الحديث بأنه من المعلوم بداهة أن السمع والبصر والنطق من صفات الأحياء وليس الأموات، وليس أحدهما كالآخر. كما أن الحديث يعارض ما جاء به القرآن الكريم، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: «وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ» (سورة فاطر:22)
ومثله - أيضًا - قوله سبحانه وتعالى: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَن» (سورة النمل: 80)، رامين من وراء ذلك إلى الطعن والتشكيك في السنة النبوية.
وجها إبطال الشبهة
أولًا: إن المقصود بنفي السماع في قوله تعالى: «وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ» وقوله تعالى: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى»، هو سماع الكفار الذين ختم الله على قلوبهم، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع، وهذا لا يتعارض مع صحة حديث قليب بدر.
ثانيًا: لقد فصل العلماء القول في مسألة سماع الموتى، فجاء على ثلاثة آراء: فذهب بعض العلماء إلى إطلاق السماع؛ مستدلين بحديث القليب وحديث سماع الميت قرع نعال مشيعيه، وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن السماع يكون في حال دون حال ووقت دون وقت؛ مستدلين بما سبق من أحاديث، وذهب فريق ثالث إلى نفي السماع مطلقا إلا ما ورد النص بتخصيصه، كما في حديث القليب وحديث سماع الميت قرع نعال مشيعيه، وهذا هو الراجح.
التفصيل:
أولا: اختلاف مفهوم سماع الموتى في الآيات عنه في الأحاديث:
إن الأخبار التي جاءت في قليب بدر، ونداء النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم، وما أخبر أنهم يسمعون كلامه - أخبار ثابتة توجب العمل والمحاسبة، أما الآيتان اللتان استدل بهما على رد ما ثبت في الحديث، فقد أجاب أهل االعلم عنها بعدة أجوبة:
أما الآية الأولى وهي قوله سبحانه وتعالى: «إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين»، قال الشنقيطي: "اعلم أن التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية، واستقراء القرآن أن معنى قوله: «إنك لا تسمع الموتى» لا يصح فيه من أقوال العلماء إلاتفسيران:
الأول: أن المعنى «إنك لا تسمع الموتى»؛ أي: لا تسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه - إسماع هدى وانتفاع؛ لأن الله كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع.
ومن القرائن القرآنية الدالة على هذا، أن الله - عز وجل - قال بعده: «إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون» (النمل:81)، فاتضح بهذه القرينة أن المعنى «إنك لا تسمع الموتى» أي: الكفار الذين هم أشقياء في علم الله إسماع هدى وقبول الحق، ما تسمع من ذلك الإ سماع «إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون»، فمقابلته - عز وجل - بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها، لمن يؤمن بآياته، فهو دليل واضح على أن المراد بالموتى في الآية موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن.
التفسير الثاني: هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله سبحانه وتعالى: «إنك لا تسمع الموتى» (النمل: 80) خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مثل ضرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع، كما قال سبحانه وتعالى: «ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء» (البقرة:171)، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفي عنهم جميع أنواع السماع، كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفي عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا»
والتفسير الأول هو الذي عليه أغلب المفسرين.
أما الآية الثانية، وهي قوله عز وجل: «وما أنت بمسمع من في القبور» (فاطر: 22)، فالقول فيها كالقول في الآية المتقدمة، قال القرطبي: «وما أنت بمسمع من في القبور»؛ أي: الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، أي: كما لا تسمع من مات، كذلك لا تسمع من مات قلبه... أي: هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه».
ويقول ابن كثير: "قوله تعالى: «وما أنت بمسمع من في القبور»؛ أي: كما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار - بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة، لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم»
ويؤكد ذلك الطاهر ابن عاشور فيقول: "استعير «من في القبور» للذين لم تنفع فيهم النذر، وعبر عن الأموات بـ «من في القبور»؛ لأن من في القبور أغرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات؛ لأن بينهم وبين المنادي حاجز الأرض، فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإيجاز بأن يقال: وما أنت بمسمع الموتى.
ثانيا. توجيهات أهل العلم وأقوالهم في مسألة سماع الموتى:
كان لأهل العلم عدة توجيهات وتفسيرات لمسألة سماع الموتى من الأحياء، فهل الأمر في ذلك على الحقيقة في كل وقت، أم هو في وقت دون وقت، أم أن الأصل عدم السماع، وما جاء في ذلك هو من باب خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهم في ذلك على ثلاثة أقوال، كالآتي:
القول الأول: جعل السماع هو الأصل، وذهب إلى هذا القول كل من: ابن مفلح، والشنقيطي، وهو ظاهر كلام قوام السنة الأصبهاني، وغيرهم.
القول الثاني: أن الأموات يسمعون في الجملة، لكنهم يسمعون في حال دون حال، وفي وقت دون وقت، ورأوا أن هذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائما، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يعرض للحي، فإنه قد يسمع أحيانًا خطاب من يخاطبه، وقد لا يسمع لعارض يعرض له، وهذا السمع سمع إدراك، لا يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله عز وجل: «إنك لا تسمع الموتى» فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال، فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفقه المعنى، فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى لا يمكنه إجابة الداعي، ولا امتثال ما أمر به ونهى عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي، وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي، وإن سمع الخطاب، وفهم المعنى، كما قـال سبحانه وتعالى: «ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم» (الأنفال:23).
واستدل أصحاب القولين السابقين على قولهم بسماع الموتى بعدة أدلة، أهمها: حديث القليب والذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي طلحة رضي الله عنه: «أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواء بدر، خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعليناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟. قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد ولا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما...واستدلوا بحديث أنس - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «العبد إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه - حتى إنه ليسمع قرع نعالهم - أتاه ملكان فأقعداه...»، كما واستدلوا - أيضا - بمشروعية السلام على أهل القبور بصيغة الخطاب للحاضر، وهذا ثابت في أحاديث كثيرة، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون...»
القول الثالث: إن الأصل عدم السماع، وأما حديث القليب وغيره مما ورد فهو مستثنى من هذا الأصل، فيكون من قبيل تخصيص العموم، وهذا ما ذهب إليه قتادة والقاضي وأبو يعلى، والمازري، وابن عطية، وابن الجوزي، وأبو عبد الله القرطبي والشوكاني، والألوسي وابنه نعمان، وغيرهم.
الخلاصة
ذهب جل المفسرين إلى أن قوله سبحانه وتعالى: «وما أنت بمسمع من في القبور»، وقوله تعالى: «إنك لا تسمع الموت»، المقصودبهم الكفار الذين لم يستجيبوا لكلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهؤلاء أشبه ما يكونون بالأموات الذين لا يسمعون ولا يستفيدون بالكلام، فالسماع هنا سماع انتفاع واهتداء.
إن حديث القليب حديث صحيح ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ابن عمر لم ينفرد به كما يدعون، وإنما رواه عمر وأبو طلحة - رضي الله عنهما - وقد ورد في الصحيحين، وعند الإمام أحمد، فكيف يدعون بطلانه؟!
لقد ذهب العلماء في توضيح مسألة سماع الموتى إلى ثلاثة أقوال: فذهب بعضهم إلى أن السماع أصل، وأن جميع الموتى يسمعون الأحياء، واستدلوا بحديث القليب، وأنه عام، ولم يخصص وقتا دون وقت، ولا شخصا دون شخص، ولم يرد ما ينفيه أو يعارضه. وهذا ما ذهب إليه الشنقيطي وابن مفلح وغيرهما.
وذهب بعض آخر من العلماء إلى أن سماع الموتى يكون في حال دون حال، وفي وقت دون وقت، واستدلوا بحديث قليب بدر، وحديث سماع الميت قرع النعال بعد الانتهاء من الدفن، وحديث إلقاء السلام على أهل القبور عند دخولها. وهذا ما ذهب إليه ابن تيمية وغيره من العلماء.
وذهب فريق ثالث إلى نفي السماع مطلقا، إلا ما ورد النص بتخصيصه، واستدلوا بقول الله تعالى: «وما أنت بمسمع من في القبور» وقوله تعالى: «إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين»، كما ذهبوا إلى أن حديث قليب بدر، وتكليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هناك بعض الروايات التي تذكر قوله: «إنهم الآن يسمعون». وأما حديث سماع الميت قرع نعال مشيعيه؛ فذلك لأن الروح قد ردت إلى الجسد استعدادا لحساب الملكين في القبر. وأما حديث إلقاء السلام عند دخول المقابر، فللعظة والعبرة في أحوال الموتى، ولم يأت نص عام في إطلاق سماع الموتى.
اقرأ أيضا:
___________
المصدر موسوعة بيان الإسلام