البحوث والتطوير هي العمود الفقري للابتكار، والتي تدعم تطوير منتجات وخدمات جديدة قادرة على لمس جميع جوانب الحياة الحديثة، وتؤثر تأثيرًا عميقًا على الازدهار الاقتصادي للبلدان ونوعية الحياة التي يتمتع بها مواطنوها.
ولنا خير مثال في ذلك دولة الصين، التي يمثل عدد سكانها 19% من عدد سكان العالم، والتي أصبحت الاقتصاد الثاني عالميا بفضل إيمانها منذ عقود بأن الابتكار هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي أسوة بدول مثل الولايات المتحدة واليابان التي لها اقتصادات راسخة في النمو القائم على الابتكار.
حيث كرست الصين على مدى العقود الثلاثة الماضية المزيد والمزيد من الموارد للبحوث والتطوير، بحيث أرتفع الإنفاق على البحث العلمي من 0.72% من الناتج القومي المحلي بالصين عام 1991 إلي 2.2% عام 2018 بزيادة تتجاوز 30 ضعفا، والذي من المخطط له أن يصل إلي 2.5% خلال عام 2020.
حيث تنفق الصين حاليا على البحوث والتطوير أكثر مما تنفقه اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية مجتمعة، وتتبع الولايات المتحدة فقط من حيث إجمالي الإنفاق على البحوث والتطوير بقيمة 1.97 تريليون يوان في عام 2018 أي ما يساوي 277.7 مليار دولار.
بذلك يتجاوز الإنفاق الصيني 20 بالمائة من الإنفاق العالمي على البحوث والتطوير. ووفقًا لبعض التقديرات، سوف تتفوق الصين على الولايات المتحدة كأكبر منفق للبحوث والتطوير خلال عام 2020.
(تفاصيل الإنفاق الأمريكي على البحوث والتطوير بمقالنا السابق تحت عنوان "في سبيل مشروع قومي للإستثمار في الإبتكار 2، بالرابط https://www.elbalad.news/4131740)
ويصل نصيب الإنفاق الحكومي بالصين على البحوث والتطوير نسبة 22.6% أي ما يساوي 62.8 مليار دولار، بينما يمثل الإنفاق الخاص من المؤسسات على البحوث والتطوير نسبة 77.4%.
وهذا القدر من الإنفاق الحكومي على البحوث والتطوير في الصين يمثل 0.5% من الناتج القومي المحلي، و4% من إجمالي الإنفاق الحكومي في الموازنة العامة للدولة لعام 2019 الذي يبلغ قيمته 1,590 مليار دولار.
ومخصصات البحوث والتطوير في الموازنة العامة للصين لعام 2019 موزعة كالتالي: 60.6% للمعاهد البحثية، و32.7% للجامعات.
وتنقسم أوجه الإنفاق بين المجالات المختلفة من بحوث أساسية (5.5%)، وبحوث تطبيقية (11.1%)، وتطوير وإنتاج منتجات جديدة (83.3%).
وقد ساهمت النفقات الحكومية في البحوث والتطوير على حدوث تطورات تكنولوجية واضحة للغاية بالصين، منها على سبيل المثال ما حققته إدارة الفضاء الوطنية الصينية حيث أصبحت مركبة الفضاء الصينية شانجي 4 أول مركبة فضائية تهبط على الجانب الآخر من القمر، بالإضافة إلي إطلاق القمر الصناعي ميشيوس الأول من نوعه بتقنية الكوانتم، وإطلاق المحطة الفضائية الصينية تيانجونج 2، وأيضا إنتاج المركز الوطني للكومبيوترات الفائقة "صن لايت تايهو لايت" ثاني أسرع كمبيوتر فائق في العالم.
هذا وتقوم الحكومة الصينية بتطوير السلاسل الصناعية وزيادة الدعم العلمي والتكنولوجي للتنمية، من خلال استخدام مجموعة متنوعة من الأساليب منها:
- تعويض المخاطر والدعم المادي بعد إنشاء المشروع، لتوجيه الشركات في زيادة استثماراتها في البحوث والتطوير ولتعزيز التسويق والتطبيق الصناعي للتقدم العلمي والتكنولوجي.
- دعم المزيد من مناطق التنمية الإقتصادية في تطوير أنواع مختلفة من المنصات المتخصصة للإبتكار والشركات الناشئة.
- تمويل تنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتمويل الإستثمار في الصناعات الناشئة، وزيادة الدعم للمشروعات المبتكرة التي لا تزال في المراحل المبكرة أو المتوسطة من التنمية ، وذلك لتعزيز المزيد من محركات النمو.
- تقديم إعفاءات ضريبية لمثل هذه الأنشطة و للمؤسسات القائمة على نقل التكنولوجيا.
- تقديم الدعم المستمر لمعاهد البحوث، و زيادة تنمية الموارد البشرية في العلوم والتكنولوجيا.
هذا وتقوم الحكومة الصينية بتنبي نهج موجه نحو حل المشكلات وتلبية الطلب، وتقديم دعم كامل للأبحاث الأساسية بما في ذلك البحوث الأساسية في العلوم التطبيقية، وذلك لتحقيق التفوق والريادة في التكنولوجيات الرئيسية والأساسية مثل الذكاء الأصطناعي، والفضاء، والتكنولوجيا الحيوية، والرقائق الضوئية الخاصة بتحويل الضوء إلي كهرباء والعكس، وتكنولجيا المعلومات، والخامات الجديدة، والطاقة الجديدة، والتصنيع الذكي.
وتعمل أيضا على تعزيز القوة العلمية والتكنولوجية للصين، وتعزيز بناء المختبرات الوطنية، وتحسين تصميم مراكز الابتكار في العلوم والتكنولوجيا بالصين، وتنفيذ مشاريع وطنية كبرى في العلوم والتكنولوجيا، وتنفيذ برامج أجندة الإبتكار في العلوم والتكنولوجيا لعام 2030 ضمن الخطة الوطنية بالصين لتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة.
وتشجيع إنشاء آلية للابتكار، مع كون الشركات هي الجهات الفاعلة الرئيسية، التي تدمج جهود الشركات والجامعات ومعاهد البحوث، ودعم المشاركات في إدارة برامج العلوم والتكنولوجيا، وتشكيل آليات حوافز أكثر فعالية للإبتكار، مع ضمان التنفيذ الفعال للسياسات الخاصة بإصلاح إدارة صناديق تمويل مبادرات العلوم والتكنولوجيا التي تمولها الحكومة المركزية.
• مبادرة الحزام و الطريق
ونظرا لصعود الصين كدولة رائدة في العلوم والتكنولوجيا ذات تأثير عالمي وتعزيزا للتعاون الدولي في هذا المجال، قامت الحكومة الصينية بإطلاق مبادرة الحزام والطريق كإستراتيجية تنمية عالمية تضم 152 دولة، بحيث تصبح طريق لمشاركة الفرص ونتائج الإبتكار، ولتحقيق هذا الهدف تم إطلاق خطة عمل (2018 – 2022) للتعاون الدولي بين هذه الدول في مجالات العلوم والتكنولوجيا والإبتكار، تقوم على تنفيذ خطة العمل وزارة العلوم والتكنولوجيا في الصين، والتي تتضمن أربعة محاور، هي مبادرة تبادل العلوم والتكنولوجيا، مبادرة مختبرات مشتركة، مبادرة مدينة التعاون العلمي، ومبادرة نقل التكنولوجيا، وذلك لتحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية لهذه البلدان وتضييق الفجوة التنموية بين هذه الدول وبناء مجتمعات في إزدهار مشترك وتحقيق الرفاهية للمواطنين بها.
وذلك إيمانا منها بأن التعاون في مجال التكنولوجيا والإبتكار تعزز من التكامل ومشاركة موارد الإبتكار العلمي والتكنولوجي بين البلدان، ويساعد على تشكيل مصدر قوي للإبتكار من خلال تكامل أفضل للموارد والعوامل العالمية وتحسينها. بالإضافة إلى ذلك، يمكنه أيضًا الاستفادة الكاملة من المزايا النسبية لكل بلد وتقليل تكاليف ومخاطر الإبتكار التكنولوجي، وبالتالي تحسين الكفاءة الكلية، وأن الابتكار يفتح العديد من الإحتمالات والآفاق الواسعة لبناء الحزام والطريق، مما يجعل المبادرة قوة رئيسية تقود الطريق في التعاون الدولي في مجال التكنولوجيا والإبتكار، وتعزز الرخاء المشترك في جميع أنحاء العالم.
و من ضمن ما تم تنفيذه خلال مبادرة الحزام والطريق، تقديم الدعم لباكستان في مجال النقل وإدارة الموانيء، وتخطيط الأراضي ورسم الخرائط الساحلية في إندونيسيا، الميكنة الزراعية في روسيا، بناء قاعدة بيانات للسكان بدولة أنجولا، إنتاج معجون أسنان محلي في معمل أبحاث مشتركة صيني أفريقي في كينيا، عمل أبحاث مشتركة بدولة الصين بين 500 عالم من هذه الدول، تدريب عدد 1200 متدرب من خلال برنامج تدريبي تكنولوجي، إفتتاح ثمان مراكز دولية للتميز في العديد من الدول منها المغرب و زامبيا وتايلاند وباكستان.
وأيضا في مصر من خلال إنشاء مركز دراسات وأبحاث طريق الحرير بجامعة عين شمس بالتعاون مع جامعة الشعب الصينية والذي تم إفتتاحه في يناير 2019، الذي يهتم بدراسة وتقديم تقارير تفصيلية في مجالات الإقتصاد، والسياسة، والقانون، والعلوم الإجتماعية، والطاقة، والزراعة، و يهتم بإجراء دراسات وأبحاث وإستشارات إستراتيجية ولوجستية في إطار الخطة الاقتصادية المصرية 2030، وأخرها تقديم منح للسفر للصين للحصول على درجة الماجستير في قانون الملكية الفكرية.
وهذا الإهتمام المكثف بالبحث العلمي خلال العقدين الماضيين ليس فقط من الصين ولكن من كل الدول التي تقع في فئة الدول ذات الدخل المتوسط والفوق متوسط، سعيا منها لإيجاد مكان لها في الصدارة وسط دول العالم المتقدمة، ويظهر ذلك جليا من خلال زيادة الإنفاق على البحث العلمي للدول ذات الدخل فوق المتوسط من 0.6% عام 1996 إلي 2.1% من الناتج القومي المحلي عام 2017، وأيضا زيادة عدد الباحثين في الدول ذات الدخل المتوسط بنسبة 34% خلال الفترة من عام 2008 إلي 2016 في حين الزيادة العالمية لنفس الفترة 19% فقط.
ونستكمل في مقالنا القادم الحديث عن إنفاق المؤسسات والشركات على البحوث والتطوير، وأيضا ملامح السبيل لمشروع قومي للإستثمار في الإبتكار.
و لحديثنا بقية،،