التوبة إلى الله .. يبقى العبد المسلم رغم حبه لله تعالى وبحثه عن مرضاته في حياته مخلوقًا ضعيفًا، يقع في مواطن الشبهات والخطايا حينًا بعد حين، ويصدق ذلك قول النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحديث: "كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطائينَ التوابونَ"؛ فأعقب النبي -عليه الصلاة والسلام- وصف الإنسان بأنه خطاء، وأن خير الناس من يتوب مرةً بعد مرة ويكثر التوبة والإنابة إلى الله تعالى.
والتوبة كما ورد في قاموس اللغة مصدر تاب، وهي الإقلاع عن الخطأ والرجوع عنه، والاعتراف بالتقصير وبالذنب، وأما التوّاب فهي صيغة المبالغة للفعل تاب، وهو كثير العودة والرجوع عن الذنوب، وهو اسم من أسماء الله الحسنى كذلك، ويدل على كثرة توبة الله تعالى على من يتوب من عباده.
حب الله لتوبة عبده
الأحاديث والآيات الكريمة التي ترغب العبد بالتوبة وتؤكد حب الله تعالى لتوبة عبده كثيرة، ومنها:
1- الحديث القدسي عن الله – تعالى-: «يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليلِ والنهارِ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفرُ لكم».
2- وفي حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم- يصف فيه أن رجلًا في أرضٍ دون طعام أو شراب فيها، ونام قليلًا فيها فتركته ناقته التي حمل عليها طعامه وشرابه، فاستيقظ فلم يجد ناقته، فأصابه اليأس، فاضطجع في ظل شجرة، فإذا هي عائدة مجددًا بين يديه، فقام من فرحه يقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربّك، فأخطأ من شدة الفرح».
التوبة من الذنوب العظيمة
يخبر الله تعالى عباده أن رحمته وتوبته عظيمة وشاملة كلّ بني آدم مهما بلغت ذنوبه كثرة أو عِظمًا، فإنّ الله تعالى قادرٌ على مغفرتها كلها، قال الله – تعالى- في الحديث القدسيّ: «يا ابنَ آدمَ، إنَّك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كانَ منكَ ولا أُبالِي، يا ابنَ آدمَ، لوْ بلغتْ ذنوبُك عنانَ السماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لكَ ولا أُبالِي، يا ابنَ آدمَ، لوْ أنَّك أتيتَني بقُرَابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشركْ بي شيئًا لأتيتُك بقرابِها مغفرةً»؛ ففي الحديث القدسيّ بشارة عظيمة لجميع البشر أنه مهما بلغت الذنوب عددًا أو عظمًا فإن الله تعالى يغفرها كلّها فلا تعجزه كثرتها ولا يبالي بها.
واشترط الله تعالى لتلك المغفرة أن يدعوه الإنسان ويرجوه، فيدعوه أن يغفر له، ويرجوه أن يقبل منه توبته، فحينئذٍ تُمحى ذنوبه من صحيفة سيئاته، ولقد قال الله – تعالى-: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»، ثمّ يكرر الله تعالى الخبر بشكل آخر في الحديث القدسي، وذلك في قوله: « لو بلغت ذنوبك عنان السماء، فإن كانت الذنوب قد وصلت السماء أي سحابها من كثرتها، فيقول الله تعالى: (ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لكَ ولا أُبالِي)،[٦] فكرم الله سبحانه مع عباده أوسع من أن يحرم عبدًا التوبة والقبول بعد أن استغفره ودعاه ورجاه. ويختم الله تعالى بشكل آخر، وهو أنه لو كانت ذنوب العبد ملء الأرض، ثم لقي الله تعالى موحدًا مخلصًا موقنًا بذلك، لأتاه الله تعالى بملئها مغفرة وتوبة، وذلك من جميل حب الله تعالى لعباده وتوبته عليهم».
شروط التوبة وما يعين عليها
ذكر العلماء خمسة شروط للتوبة المقبولة على المرء أن يجتهد ليحصّلها كلها حتى يطمئنّ أن توبته قد قبلت، والشروط هي:
1- إخلاص النية لله تعالى من هذه التوبة، فلا تكن سعيًا لمرضاة أي أحد سواه.
2- الإقلاع عن الذنب وتركه نهائيًا. الندم على إتيانه والوقوع فيه من قبل.
3-عقد العزم على عدم العودة إليه ثانية. الشروع بالتوبة والإقبال على الله تعالى قبل أن يغرغر الإنسان عند الموت.
4- أداء الحقوق إلى أصحابها إن كانت الذنوب والمعاصي متعلّقةً بالعباد، وبذل كل الوسع والطاقة في ذلك، فإن كانت التوبة من السرقة مثلًا فعلى العبد أن يردّ المسروقات إلى أصحابها، وإن كان ذلك صعبًا فعلى العبد أن يتصدّق بقيمة المسروقات.
وكما ذكر العلماء شروطًا لقبول التوبة، فقد ذكروا أمورًا تعين على إقبال المرء على توبته، وتسهّل عليه الثبات عليها، ومن المعينات على التوبة والثبات عليها ما يأتي:
1- استحضار عظمة الله سبحانه وأنه المتفضل على عباده بنعم كثيرة، فلا يجوز أن يقابل المرء الإحسان بالإساءة، بل بالشكر والطاعة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
2- تذكر سوء عاقبة الذنب والمذنبين، وأنه سبب لحلول سخط الله تعالى، ونزول النقم عليه بسبب تكرار أخطائه وبعده عن التوبة والاستغفار، ولقد أوضح الله تعالى في القرآن الكريم أن الذنوب سبب لنزول النقم والبلايا، قال الله تعالى: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ".
3- استحضار فضل التوبة وأهميتها، فكما أن استحضار سوء الذنب ينفر منه، فإنّ استحضار فضل التوبة وأهميتها قبل الموت سببٌ للإقبال عليها والرغبة في الاستزادة منها.
4- إيقان المسلم أنه لا بد من الوقوف بين يدي الله تعالى يوم الحساب، واستعراض الذنوب والخطايا واحدًا واحدًا أمامه، فذلك سبب لخجل الإنسان من ذنوبه واجتهاده في التوبة منها.
5- حفظ القرآن وتلاوته، فإنه معين للاستقامة والتوبة.
6- الإكثار من مجالس الأخيار وصحبتهم، فإنّ في ذلك تذكيرًا دائمًا بما يرضي الله تعالى، وفيه عونٌ من الجماعة على استقامة الفرد وصحوته باستمرار.
7- التوجه لله تعالى بصدق الدعاء أن يعينه على الثبات والاستقامة طوال العمر، ومن ذلك مواظبته على قول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».
كيفيّة التوبة إلى الله تعالى
التوبة هي اسمٌ جامعٌ لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، وترك ما يبغضه الله تعالى ظاهرًا وباطنًا، والقيام بما يحبه الله تعالى، والتوبة هي ترك الذنب؛ مخافة الله تعالى، والندم على فعله، والعزم على عدم العودة إليه، واستشعار قبحه، والتوجه إلى الله تعالى فيما بقي من الحياة.
علامات قبول التوبة
إنّ للتوبة المقبولة علاماتٌ تدلّ على قبولها، ومن هذه العلامات:
١- أن يكون ما بعد التوبة خيرًا ممّا قبلها: ويكون ذلك بالمداومة على الطاعات وفعل الخيرات؛ لأنّ التكاسل عن الطاعات والتفريط فيها دليلٌ على عدم قبول الله تعالى للتوبة.
٢- انخلاع القلب وتقطّعه؛ ندمًا وخوفًا من العقوبة العاجلة والآجلة.
٣- بقاء الخوف من العودة إلى الذنب مصاحبًا للتائب، حيث إنّ المؤمن يخشى من ذنبه وإن صغر، أمّا المنافق لا يخشى منه وإن كان ذنبه عظيمًا، بل ينظر إلى ذنبه كأنّه ذبابة وقعت على أنفه فأزاحها.