الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حبيبك يمضغ لك الزلط


أعشق التراث الشعبي المصري الذي تنبع أحكامه من عاداتنا وتقاليدنا المصرية الأصيلة، والتي تدل على حكمة العقلية المصرية التي كانت تفرز جملا عميقة الدلالة اتخذتها الأجيال المتتالية نبراسا لها.

وتأتي مقولة "من فات قديمه تاه" لتدل على ضرورة ارتباطنا بتقاليدنا العريقة، حكم وأمثال وأغانٍ كانت من نبت إحساس المصري بموقف ومناسبة معينة، لكنها في النهاية وحين نحللها نجد لها تفسيرات منطقية عديدة رغم أنهم لم يحملوا الدكتوراه ولا حتى الماجستير.

قبل سنوات كنت في زيارة للخال الراحل الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي في فيلته بالإسماعيلية وكان يمتعنا بأشعاره الجميلة، وسألته عن مدى قناعته بتلك الكلمات المغناة في الأوساط الشعبية والريفية بوجه خاص، واكتشفت أن الخال يعشق تلك الأغاني ويرددها بسعادة بالغة وهي كلمات بدون مؤلف معروف لكنها بنكهة الأرض الطيبة، وتعبر عن مواقف معينة أو ما تتمناه الأنفس.

وسارت كلمات الأغاني في اتجاه كسر حالة الملل في الأفراح الشعبية، وبرع المصريون في إطلاق أحكام نتيجة مرورهم ببعض المواقف، أيضا صارت الأمثال تعبر عن تاريخ تطور المواقف الشعبية في أزمان وسنوات معينة وتؤخذ منها الحكم (بكسر الحاء)، لتعبر عن مواقف مرت ويستفيد منها من سيمر بنفس الموقف، ولأن الأغاني الشعبية الأصيلة مثل: "ع العجلة - هيييه - شبكها هييييه بالفستان اللبني" حتى آخر الأغنية التي تصف لقاء العريس بعروسه في ليلة الدخلة، كانت لها دلالات تعبر عن مدى الفرحة وتصف حالة البهجة التي تنتاب كلا منهما.

وعلى جانب آخر، ومع تطور الأغاني الشعبية، كانت الأمثال الشعبية تزدهر في المجتمع الريفي بشكل خاص من جراء حكايات ووقائع وكانت نتيجة مواقف معينة وبرع المصريون فيها ولكل منها حكاية لديهم، ولم يكن المثل يقال إلا للتعبير عن مناسبة أو للتحذير من موقف أو نتيجة لما حدث ليهتدي به الجيل التالي، فمثلا: إذا حدث استثناء لأي إنسان في مصلحة حكومية تجد من يردد على الفور "ااااه ما هي كوسة".

ولتلك حكاية تبدأ من عصر المماليك حين كانت تغلق أبواب المدينة حين يحل الليل ولا يسمح لأحد بدخول مدينة القاهرة، وكان التجار حين يأتون ليلا ينتظرون حتى الصباح عندما يتم فتح أبواب المدينة لدخول التجار، غير أن تجار الكوسة كانوا يدخلون المدينة في أي وقت ويتم فتح الأبواب لهم، وذلك لأن الكوسة من الخضراوات سريعة التلف، فكان يسمح لبائعي الكوسة فقط بالدخول والمرور من الأبواب لعدم تلف بضاعتهم، وعندما يعترض أحد التجار لعدم دخوله كان الآخر يرد عليه قائلا: "ااااه ما هي كوسة"، وصار المثل يضرب في حالة حصول أحدهم على استثناء.

بينما جاء مثل: "المنحوس منحوس ولو علقنا على رتسه فانوس"، ليعبر عن حالة الشخص الذي يفشل في كل شيء فقد كان هناك أخوان أحدهما غني والثاني فقير لا يجد نجاحا في أي عمل يقوم به، فقرر الأخ الغني أن يساعد شقيقه دون أن يحرجه، وكان يعلم أنه يذهب لصلاة الفجر يوميا، فقام بوضع كيس من النقود أمام الباب ليلقاها حين يخرج للصلاة، لكنه في ذاك اليوم لم يخرج للصلاة وأخذها أحد المارة، وتكرر الأمر في يوم آخر بالضبط، فقال الأخ الغني: "المتعوس متعوس ولو علقنا على رأسه فانوس".

ويبدو أن المصريين قديما كانوا يعانون سوء الحظ فجاء مثل "جت الحزينة تفرح مالقتلهاش مطرح"، ليعبر عن قصة واقعية حدثت في إحدى القرى العربية وكانت بها عائلة كبيرة لقبها "تفرح"، وكان عندهم فتاة رائعة الجمال اسمها الحزينة، وذات يوم جاء أحد التجار ويدعى "مطرح" وشاهد ابنتهم فقرر أن يخطبها لابنه ويدعى "إلها" وتمت الخطبة لكن الحزينة كانت عصبية جدا وقبل العُرس تشاجرت مع خطيبها، وبعد ذلك اعتذرت له عن خطئها لكن خطيبها قرر أن ينتقم منها ومن كبريائها عليه، وعندما حل موعد الفرح وارتدت ملابس العرس قرر خطيبها إلها أن ينتقم منها وتركها وحيدة في ليلة عرسها ولم يأت، فما كان من المدعوين إلاأ ن رددوا جملة "جت الحزينة تفرح ما لقتلهاش مطرح"، ويستخدم هذا المثل الشعبى للتعبير عن سوء الحظ.

وجاء التسامح ليكون عنوانا آخر لموقف مر به أحد الأعراب حين تشاجر مع جاره وتدخل صديقه لفض الشجار فصفعه الأعرابي وقام بطرده، وعقب انتهاء المشاجرة اعتذر الأعرابي لصديقه على إيذائه، فسامحه من منطلق الحب بينهما، بينما وقف الذي تشاجر معه يعد له عدد المرات التي ضربه فيها، فقال الأعرابي: "حقا، حبيبك يمضغ لك الزلط وعدوك يعد لك الغلط".

مثل آخر يقال في الذين يتدخلون في المواقف بدون علم لمجرد إثبات وجودهم، فقد كان هناك أحد التجار تعرض لسرقة مال من متجره وعدا خلف السارق الذي تعثر في جوال به عدس وسقط على الأرض، فانهال عليه التاجر بالضرب وظن الناس أن اللص كان يسرق العدس فتدخلوا لإنقاذ اللص فصرخ التاجر فيهم "ابتعدوا عني، اللي مايعرفش يقول عدس".

بينما جاء مثل: "إحنا دافنينه سوا ليعبر عن حالة نصب صديق على صديقه"، فكان هناك صديقان يمتلكان حمارا يقضيان به أعمالا مقابل المال وفجأة مات الحمار، وعندما دفناه فكر أحدهما في إقامة سور حوله والادعاء بأن رجلا صالحا مدفونا تحته ليأتي الناس لهم بالقرابين فيقتسمانها مناصفة، وذات يوم غاب أحدهما فسرق الآخر القرابين وادعى لصديقه أن اليوم لم يأت أحد، فثار في وجهه وأخبره بأنه علم أن أناسا حضروا محملين بالقرابين وأنه سرقها، فثار الصديق اللص وقال له: "أنت تتهمني بالسرقة، سأشكوك لسيدنا في المقام"، فضحك زميله قائلا: "سيدنا.. دا احنا دافنينه سوا".

التراث الشعبي كنز ليس له حدود وسيظل المصريون يبدعون في إطلاق الحكم والأغاني والأمثال المعبرة عن حالهم بمقدرة فائقة وفي كل المواقف.

المصري ليس له كتالوج.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط