ربما كان الشيخ الشعراوي، هو أحد أبرز علماء الدين في القرن العشرين الذين أجمع عليهم المشرق والمغرب. ولم يختلف أي احد على علمه ونورانيته ورؤاه وخواطره حول القرآنالكريم. وباستثناء بعض المواقف السياسية التي سجلت عن الشيخ الشعراوي في حياته، وقيل إنها ادعاء مرة، وقيل إنها حقيقة مرة أخرى، بقى الشيخ الشعراوي حتى اللحظة التي يكتب فيها هذا المقال عنه، وسيبقى بعدها إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا، سراجا منيرًا وهاجا في ميدان الدعوة الإسلامية.
حيث استطاع كداعية، أن يسبق كل الدعاة خلال القرن العشرين وخلال الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، بعلمه الصافي وخواطره الصادقة العميقة، التي وصلت إلى قلوب وعقول الملايين في العالم الإسلامي شرقه وغربه، والذين اعتادوا حتى اللحظة على الالتفاف حول شاشة التلفزيون ظهر كل يوم جمعة للاستماع إلى خواطره حول القرأن الكريم، ثم زاد فيضه وعطائه بعدما خصصت إذاعة القرآن الكريم وذلك قبل سنوات مضت فترات طويلة من إرسالها لخواطر الشيخ الشعراوي وأدعيته على مدى ساعات الليل والنهار.
ويحسب للشيخ الشعراوي، أنه وصل بالعلم الديني وبتفسيره البليغ للقرأن الكريم، إلى مئات الملايين بأسلوب سهل بسيط يسهل على الرجل الأمي فهمه، كما يسهل على المثقف التعلق برؤاه والاستمتاع بخواطره.
وفي تفسيره للقرأن الكريم، اعتمد الشيخ الشعراوي على القرآنلتفسير القرآن، وتفسير الآية بالآية، والعمل على الكشف عن فصاحة القرآن وسر نظمه.
ودفع التفسير الديني، في زاوية الإصلاحالنفسي والاجتماعي، والرد بخواطره على شبهات المستشرقين ورؤاهم.
والمزاوجة بين العمق والبساطة وذلك من خلال اللهجة المصرية الدارجة، وضرب المثل وحسن تصويره، والاستطراد الموضوعي
واستخدام الأسلوب المنطقي الجدلي ليبقي المشاهد والمستمع له دوما في حالة يقظة طوال شرحه للآية القرأنية والاقتراب من معانيها وسبب نزولها وربطها بالسابق عنها واللاحق لها.
وفي الحديث عن الشيخ الشعراوي- رحمه الله- يمكن التوقف أمام بعض محطات حياته ومواقفه، كما يمكن التوقف أمام منهجه في الدعوة الإسلامية حتى لقب بإمام الدعاة.
وفي نقل مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، وموقف الشيخ الشعراوي من هذا الحدث الجلل ما يُحكي..
ففي عام 1954 كانت هناك فكرة مطروحة، لنقل مقام سيدنا إبراهيم من مكانه، والرجوع به إلى الوراء حتى يفسحوا المطاف الذي كان قد ضاق بالطائفين ويعيق حركة الطواف، وكان قد تحدد أحد الأيام ليقوم الملك سعود بنقل المقام. وفي ذلك الوقت كان الشيخ الشعراوي يعمل أستاذًا بكلية الشريعة في مكة المكرمة وسمع عن ذلك واعتبر هذا الأمر مخالفًا للشريعة فبدأ بالتحرك واتصل ببعض العلماء السعوديين والمصريين في البعثة لكنهم أبلغوه أن الموضوع انتهى، وأن المبنى الجديد قد أقيم، فقام بإرسال برقية من خمس صفحات إلى الملك سعود، عرض فيها المسألة من الناحية الفقهية والتاريخية، واستدل الشيخ في حجته بأن الذين احتجوا بفعل الرسول جانبهم الصواب، لأنه رسول ومشرع وله ما ليس لغيره وله أن يعمل الجديد غير المسبوق، واستدل أيضًا بموقف عمر بن الخطاب الذي لم يغير موقع المقام بعد تحركه بسبب طوفان حدث في عهده وأعاده إلى مكانه في عهد الرسول. وبعد أن وصلت البرقية إلى الملك سعود، جمع العلماء وطلب منهم دراسة برقية الشعراوي، فوافقوا على كل ما جاء في البرقية، فأصدر الملك قرارًا بعدم نقل المقام، وأمر الملك بدراسة مقترحات الشيخ الشعراوي لتوسعة المطاف، حيث اقترح أن يوضع الحجر في قبة صغيرة من الزجاج غير القابل للكسر، بدلًا من المقام القديم الذي كان عبارة عن بناء كبير يضيق على الطائفين..
وكان هذا الموقف الجليل والمشهود، والشيخ الشعراوي أنذاك في الثالثة والأربعين من عمره، بداية شهرته وانتصاره للدين ولثوابته ورؤاه الصادقة المبنية على العلم والدراسة.
كان ما يميز الشيخ الشعراوي - رحمه الله- ليس فقط تفاعله مع العصر وقدرته كعالم دين على عدم التحجر، ولكن المبادرة بالفعل الدال على ثقافته وحسن اطلاعه، ولعل تمسكه بقرض الشعر والاستشهاد ببعض الأبيات الشعرية، طوال رحلته مع الدعوة الإسلامية، كان ولا يزال أكبر رد اعتبار للشعر العربي الأصيل وعلى دعوات المتطرفين، الذين اكتفوا طوال عقود بالتفسير الضيق للآية القرأنية الكريمة "والشعراء يتبعهم الغاوون" وكانوا بغلظتهم يعتقدون أن هذه الآية أكبر دليل على احتقار الدين للشعر او عدم أهميته، لكن الشيخ الشعراوي كان يرى ولا يزال من خلال تدفق خواطره حتى بعد نحو 20سنة كاملة على رحيله أن الشعر نوع رفيع من الأدب وله مقامه وقدره، والبيت الشعري قد يكون حكمة مدوية تتناقلها الأجيال وليس سبة أو عار أو شىء غير ذي قيمة.
كان الشيخ الشعراوي- رحمه الله- وربما لا يعرف ذلك الكثيرون أول من أفتى بشرعية البنوك والتعامل معها بقوة وجرأة في السبعينيات من القرن العشرين..
ففي نوفمبر 1976م اختار السيد ممدوح سالم رئيس الوزراء آنذاك أعضاء وزارته، وأسند إلى الشيخ الشعراوي وزارة الأوقاف وشئون الأزهر. فظل الشعراوي في الوزارة حتى أكتوبر عام 1978م. وخلالها كان أول من أصدر قرارًا وزاريًا بإنشاء أول بنك إسلامي في مصر، وهو بنك فيصل حيث أن هذا من اختصاصات وزير الاقتصاد أو المالية (د. حامد السايح في هذه الفترة)، والذي فوضه، ووافقه مجلس الشعب على ذلك.
كانت الميزة الأثيرة للشيخ الشعراوي، انه ركز جل جهده في الدعوة الإسلامية، وابتعد عن مناطق الخلاف الشائكة، وقدم بتفسيره وسطية رائعة غير مسبوقة، تتناسب مع عظمة الدين الاسلامي فأعجب به الجميع وتابعه الجميع، ليستفيدون بعلمه الواسع وخواطره القرأنية، كما ابتعد عن الخوض في السياسة فظل عالما مقتدرا في الدين، لم تقذفه السياسة في تياراتها يمينا أو يسارا لأنه حدد وجهته. ويحسب له إطلاعه الواسع طوال سني حياته لذلك عندما تفرغ للدعوة الإسلامية، بعد بلوغه الستين من العمر، كان متزودًا بكل ما كتب وقيل في الدين الإسلامي.
واستطاع رحمه الله أن يستغل التلفزيون كأداة إعلام هائلة في الخروج بتفسيره من رحاب المسجد إلى رحاب العالمية، وإلى مئات الملايين الذين يتابعونه، فهو إمام الدعاة وسيد المجددين في الفكر الإسلامي وفي النهل من ينابيعه الصافية.
قدم الشيخ الشعراوي للمكتبة الاسلامية، العديد من الكتب كما قام محبوه اعتمادا على شهرته وصيته الواسع، بجمع العديد من أحاديثه وتدفقاته ووضعها في كتب نالت رواجًا شديدًا، من كتبه رحمه الله..
خواطر الشعراوي
المنتخب في تفسير القرآن الكريم
خواطر قرآنية
معجزة القرآن
من فيض القرآن
نظرات في القرآن
الإسراء والمعراج
الأدلة المادية على وجود الله
الإسلام والفكر المعاصر
الإنسان الكامل محمد صلى الله عليه وسلم
الأحاديث القدسية
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى
البعث والميزان والجزاء
التوبة
الجنة وعد الصدق
الجهاد في الإسلام
أضواء حول اسم الله الأعظم
الطريق إلى الله
الظلم والظالمون
المعجزة الكبرى
أسماء الله الحسنى
أسئلة حرجة وأجوبة صريحة
الفتاوى
الفضيلة والرذيلة
الفقه الإسلامي الميسر وأدلته الشرعية
القضاء والقدر
الله والنفس البشرية، وغيرها من عشرات الكتب والموضوعات التي صنفت من خواطره وتفسيره رحمه الله.
وأنا أقارب النهاية في هذا المقال، ومن دافع عشقي للشيخ الشعراوي ومعرفتي مثل الملايين بتفرده رحمه الله، أشعر أني لم اكتب شيئا عنه، ولا يزال هناك الكثير والكثير من الواجب ان يروى عنه. كما أني اعتقد أن هناك حاجة ماسة لإعداد عشرات من رسائل الماجستير والدكتوراة، حول فكر ومنهج الشيخ الشعراوي في الدعوة الإسلامية باعتباره واحدا من رموز النهضة الثقافية والدينية الحديثة، وتصنيف ذلك علميا ومقارنة تفرده بالسابقين واللاحقين، والتوقف أمام صيته وشهرته التي لا تزال حية متوهجة الى اليوم.
كما أرى أنه من الواجب على الأزهر الشريف، تخصيص جائزة سنوية باسم "الشيخ الشعراوي" للبحث المتفرد في الدعوة الإسلامية، أو للداعية القادر على أن يصل بمعاني ورؤى جديدة وفهم مستنير للاسلام إلى قلوب جماهيره، كما أطالب الأزهر الشريف تقديرا لمكانة الشيخ الشعراوي، بتخصيص كرسي في الأزهر باسم الشيخ الشعراوي، ودراسةأحاديثه وكتبه، واضطلاع الازهر بهذه المهمة سيكون حدثًا جللا لقيمة الشيخ الشعراوي في قلوب مئات الملايين من المسلمين.
رحم الله الشيخ الشعراوي وزادنا من فيض علمه الذي لايزال يتلى ويذاع حتى اليوم.