أبدأ باعتذار لمن قد يسوءه استخدام لفظ "النطاعة" في "مقال رأي"، لا سيما في عنوان يتصدره، ولعل أولئك يلتمسون لي العذر، إذا صارحتهم بأني لم أجد لهذا اللفظ مرادفًا آخر، يصف هذا السلوك بدقة، ويعكسُ جميع أنماطه، ليُجنبني جريرة اللجوء لهذا اللفظ سيء السمعة، فما كان أمامي إلا أن استخدم لفظ "النطاعة"، كي أسمي الأشياء بمسمياتها.
مصطلح "النطاعة" ليس لفظًا عاميًا فحسب، بل كلمة عربية تشير في إحدى معانيها إلى السلوك الذي نقصده، والذي يتمثلُ في ركون الشخص إلى الاتكالية، والاعتمادية على الغير، التي تصل بصاحبها في نهاية الأمر لأن يصبح "التنطع" أسلوب حياته، يستيقظ من نومه، يتذلل رغيف إفطاره، وقوت يومه، ويستجدي أقراص علاجه، وثمن ملابس أولاده ومصروفات دراستهم، كما يجد راحته في إلقاء أعباء مسئولياته على من حوله في البيت والعمل والمُجتمع، فهو شخص مُتطفل على الآخرين، يعتقدُ أن على المجتمع دورًا حتميًا في إعالته، بل ومن يعولهم، حتى وإن كان قادرًا على العمل والعطاء.
الانتشارُ الملحوظ لسلوك "النطاعة" في هذه الآونة، دفعني لأن أغامر بالكتابة عنه، واستخدام اللفظ دون تحفظ، ففي الدائرة القريبة حولي العديد من النماذج لرجال يركنون إلى البطالة في المنزل والمقاهي، بينما زوجاتهم الفضليات يعملن في مجالات عدة تصل إلى الخدمة في المنازل، إلى جانب نماذج أخرى أقربها بجوار منزلي، حيثُ مقر وزارة الشباب والرياضة بالمهندسين، لأبٍ يأتي كُل مساء على "تروسكل"، ليطلق أبناءه الخمسة في الشوارع المجاورة للتسول والاستجداء وبيع المناديل، في انتهاك صارخ لآدميتهم وحق طفولتهم، بينما يقتات التبغ طوال الليل حتى انتهائهم بعد إحصاء حصيلة هذا العمل غير الصالح، ولا تتوقف نماذج "النطاعة" عند هؤلاء، ففي مجال العمل حولنا من يُمارسون سلوك "النطاعة" في أبشع صورها، حيثُ يبدون غير جديرين بتحمل المسئوليات وأعباء العمل، التي تضافُ في واقع الأمر إلى كاهل زملائهم الجادين، فنطاعة البعض دومًا يتحمل تكلفتها آخرون.
لعل ما ساءني أكثر من انتشار سلوك "النطاعة"، هو الترويج له من خلال عدد من المنصات الإعلامية المُختلفة، فإذا اعتبرنا أن تجسيد هذا السلوك في الأعمال الدرامية، نوع من انتقاده وإظهار سوءاته، إلا أن الإعلانات التجارية في موسم رمضان هذا العام مثل بعضها ترويجًا لسلوك "النطاعة"، ومن ذلك إعلان التجمع السكني الشهير الذي يكفي أن تذكُرَ أنك "شريكًا" به، لتفتح الكلمة السحرية لك أبواب الوظيفة التي تتمنى، والزواج ممن تحب، دون البحث عن أصل وفصل، وربما إعلان "الحمد لله مش عربيتي" الذي يغرس قيم سلبية من الأنانية والنطاعة في التعامل مع ممتلكات الآخرين، وكذلك مبادرة إحدى الجمعيات الخيرية الشهيرة التي أطلقت منصة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، لمَدْ يد الخير والمساعدة للـ "الغريب" الذي يحتاجها، والتي تحولت في العديد من الأحيان إلى طلب بعضهم للبس العيد لأبنائه، وآخرين لمُساعدات شهرية، وبعضهم لفستان "علشان تتشرف قدام نسايبها"، وهو سلوك لا يمكن قبوله، أو اعتباره نوعًا من طلب المساعدة، مقارنة بسلوك الأسر العفيفة التي تفضل أن تأكلها بـ "العيش والدقة" عن أن تمد يدها على هذا النحو.
لا يمكنني اعتبار الظرف الاقتصادي عاملًا أو دافعًا يمكن قبوله كمبرر لانتشار سلوك "النطاعة"، فالفقر لا يبيح لصاحبه إهدار ماء وجهه وكرامته، وربما من أبرز العوامل لانتشار هذه الظاهرة، هو نمط التربية الذي تتبعه بعض الأسر، التي تغرس -بقصد أو دون قصد- بذور الاتكالية في نفوس أبنائها، بدلًا من تدريبهم على الاعتماد على النفس، هذا فضلًا عن إصرار البعض على مد يديه إلى من يمارسون سلوك "النطاعة" سواء من خلال الاستجداء أو إلقاء المسئوليات على الغير، مثل التمسك بتقديم الصدقة لمن لا يحتاجها ويستطيع العمل، الأمر الذي يمثل دورا أساسيا فيما وصلنا إليه، حيثُ أصبحنا نرى "المتنطعين" أينما ولينا وجوهنا، وربما على الدولة ممثلة في وزارة التضامن أن تتوصل إلى آلية لرصد المتسولين خاصة باستخدام الأطفال لوضح حد لهذه الظاهرة المقيتة، التي تغتال كرامة الأطفال وأحلامها ومستقبلهم.
النطاعة" نباتٍ شيطاني يعيش وينمو إذا توافرت له أسباب الحياة.. أوقفوا تمدد "النطاعة" وانتشارها.. ولا تمدوها بأسباب الحياة.