- مفتي الجمهورية:
- الأمة الإسلامية أحوج ما تكون إلى نشر قيم التسامح
- الهجرة شهادة ميلاد الأمة و"فتح مكة" النصر الأعظم في تاريخها
- فتح مكة أكبر دليل على التسامح الإسلامي
- رمضان شهر العمل والاجتهاد وليس للكسل والراحة
- علي جمعة:
- علمنا التفاوض والتفكير المستقبلي وكيفية الحكمة
- يجب الإخلاص لله وإدراك الواقع وتحصيل المصلحة وتحقيق المقاصد
شهد اليوم العشرون من شهر رمضان، فتح مكة، حيث خرج الجيش الإسلامي من المدينة، في السنة الثامنة للهجرة، وتوجه ما يقرب عشرة آلاف من الصحابة بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة، بعد أن استخلف على المدينة أبا ذر الغفاري، ولما كان بالجحفة لقيه عمُّه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلمًا مهاجرًا.
ويرصد «صدى البلد» آراء العلماء عن فتح مكة والدروس المستفادة، حيث قال الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، إن الأمة الإسلامية أحوج ما تكون في الوقت الراهن إلى نشر قيم التسامح والرحمة في مواجهة موجات التطرف والغلو والتشدد الديني وتياراته، وهو ما يتجلى في "فتح مكة" الذي يوافق 20 رمضان المبارك من كل عام.
وأكد «المفتي» أن هذه الذكرى العطرة أكبر دليل على التسامح الإسلامي، الذي تجلى في عفو الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن المشركين حينما دخل مكة المكرمة فاتحًا منتصرًا.
السيرة النبوية تقدم لنا أعظم صور التسامح
وأضاف مفتي الجمهورية: «ما أحوجنا في الوقت الراهن إلى نشر قيم التسامح والحوار مع الآخر ومواجهة الأفكار المتطرفة والمتشددة»، مشيرًا إلى أن السيرة النبوية الشريفة تقدم لنا أعظم صور التسامح والعفو، فعندما فتح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، قال لأهلها: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
شهادة ميلاد الأمة الإسلامية
وأوضح أنه إذا كان يوم الهجرة بمنزلة شهادة ميلاد الأمة الإسلامية، و"غزوة بدر" تمثل نضجها وقدرتها على مواجهة الأعداء، فإن "فتح مكة" كان خاتمة هذا النصر؛ فكان الفتح الأكبر والنصر الأعظم للأمة الإسلامية.
وأكد أن خُلق التسامح والعفو عن الناس، من الأخلاق الحسنة التي غرسها الإسلام في نفوس المسلمين، مصداقًا لقول الله سبحانه وتعالى للرسول الكريم: «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» (الحجر: 85)، وقال سبحانه وتعالى أيضًا فى وصف المحسنين: «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (آل عمران: 134)، لافتًا إلى أن كثيرًا من الناس يظنون خطأً أن العفو إنما هو ضعف، ولكن الصواب يخالف ذلك، فالإنسان القوي هو الذي يعفو ويصفح، وهو الذي يستطيع أن يتغلب على نفسه، لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب» (متفق عليه)، وحينما جاء رجل وقال للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : أوصني يا رسول الله! قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب» (رواه البخاري).
وأشار مفتي الجمهورية إلى أن أعظم انتصارات وفتوحات المسلمين إنما جاءت في شهر رمضان المبارك لتؤكد للجميع أن شهر رمضان هو شهر الكَدِّ والعمل والاجتهاد في مختلف المجالات، وليس شهرًا للكسل والراحة.
الإسلام دين التسامح والرحمة
ونوه بأن هناك قيمة كبرى عبر عنها هذا الفتح الأكبر، وهي أن الاسلام دين "التسامح والرحمة" فنجد أن "فتح مكة" لم يكن حربًا بل سلمًا، ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة فاتحًا ومنتصرًا، ولو كان قتل من عذبوه وآذَوه لكان ذلك عدلًا منه، إلا أنه يعلمنا جميعًا أن التسامح سمة ومبدأ أساسي في الإسلام، وأنه ينبغي علينا أن نقاتل "الكراهية والعداوة" في نفوس الأعداء حتى ينقلبوا إلى أصدقاء، مصداقًا لقول المولى عز وجل: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» «فصلت: 34».
وقال الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمنا التفاوض والتفكير المستقبلي وكيفية الحكمة، وإن الإخلاص لله هو الأساس والأصل في كل تصرف.
موافقة الرسول على صلح الحديبية
ولفت «جمعة» في تصريح له، إلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وافق على صلح الحديبية على ما فيه، حيث اتفق المشركون في الجنوب واليهود في الشمال في خيبر على سحق المدينة المنورة بالزحف عليها من كل جهة وقام صلح الحديبية لتنحية المشركين وإبطال اتفاقهم مع اليهود ثم جاءت غزوة خيبر لتفك حصار شمال المدينة.
وشدد المفتي السابق على أن فتح مكة جاء بعد نقض قريش للعهد الذي وقع بالحديبية ليفك حصار الجنوب إلى الأبد، ولذا فقد رفض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قدم به أبو سفيان بن حرب يسأل تجديد العهد ويزيد في المدة فأبى عليه صلى الله عليه وسلم ذلك فانصرف أبو سفيان على مكة وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إعلام أحد لذلك الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرر حرمه من أيدي الكفار والمشركين.
فتح مكة دروس وأحكام مستفادة
وأوضح عضو هيئة كبار العلماء، أنه في فتح مكة دروس وأحكام مستفادة في السياسة الداخلية والخارجية، وفيه عبر ومواعظ نتذكرها كل رمضان حيث كان فتح مكة.
وأضاف: "فقبل تحرك النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بجيوشهم لفتح مكة كتب حاطب كتابا وأرسله إلى مكة يخبرهم بذلك فأطلع الله نبيه على ذلك فقال عليه الصلاة والسلام لعلي والزبير والمقداد: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة (امرأة) معها كتاب فخذوه منها. قال: "فانطلقنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة. قلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب. قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. (يقصدون تهديدها) فأخرجتها من ضفائرها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم بأمور النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا حاطب، ما هذا؟ قال : يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش (ليس له حليف) ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنه قد صدقكم. فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه قد شهد بدرا. وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" [ الممتحنة :1].
وطالب بالنظر في كيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخطاء الداخل، وإن كان فعل حاطب من الكبائر إلا أنه راعى الشخص والحال والمقام، وعلمنا أن الأحكام المطلقة لا تأتي بخير وأن السياسة هي رعاية شئون الأمة في الداخل والخارج، ويجب علينا الإخلاص لله وإدراك الواقع وتحصيل المصلحة وتحقيق المقاصد، والأمر ليس قاصرًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو معلم لمن بعده إلى يوم الدين، بل هو باق ببقاء الدنيا.
وتابع: "وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب (أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم) فجابهم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم، وخرج يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شهر رمضان، وقيل لعشر وقيل لأكثر بعد العصر سنة ثمان من الهجرة، وكان المسلمون عشرة آلاف وقيل اثني عشر ألفا، وكان العباس قد خرج بأهله وعياله مسلما مهاجرا فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض".
واستطرد: "كان ممن لقيه في الطريق أبو سفيان بن الحارث ابن عمه عليه الصلاة والسلام وأخوه من رضاع حليمة السعدية ومعه ولده جعفر، وكان أبو سفيان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بُعث عاداه وهجاه، وكان لقاؤهما له عليه الصلاة والسلام بالأبواء وأسلما قبل دخول مكة ثم سار صلى الله عليه وسلم فلما كان بقُديد (وهي اسم مكان) عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل ثم نزل من الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم".
وألمح الدكتور علي جمعة، إلى أنهم بعثوا أبا سفيان بن حرب، وقالوا إن لقيت محمدًا فخذ لنا منه أمانا فخرج أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء حتى أتوا مر الظهران فلما رأوا العسكر فزعهم فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان فلما سار قال للعباس احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال يا عباس من هذه قال هذه غفار. قال: ما لي ولغفار. ثم جهينة. قال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها. قال: من هذه قال هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية. فقال سعد يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة، وفي رواية تستحل الحرمة فسمعها رجل من المهاجرين فقال : يا رسول الله ما آمن أن يكون لسعد في قريش صولة. فقال : لعلي أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها. وروي أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما حاداه أمرت بقتل قومك. قال لا : فذكر له ما قاله سعد بن عبادة، ثم ناشده الله والرحم فقال: يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة اليوم يعز الله قريشا، وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس.
وبيّن أنه في هذه القصة دروس في السياسة والحرب تكاد لا تحصى من السرية إلى قوة الردع التي تؤدي إلى عدم إراقة الدماء إلى جزاء من أراد ولو بحسن نية دمًا يراق إلى تسليم راية سعد لابنه قيس، فالأمر ليس إيغارًا للصدور أو إخراجا للضغينة إلى احترام السفراء والحكمة في التفاوضات والرضا بخطة الرشد من العدو.
ونوه بأن موسى بن عقبة قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء بأعلى مكة وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيره، وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين انتصرت بهم قريش فقاتلوا خالد فقاتلهم فانهزموا، وقُتل من بني بكر نحو من عشرين رجلًا ومن هذيل ثلاثة أو أربعة حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا الدور فارتفعت طائفة منهم على الجبال وصاح أبو سفيان من أغلق بابه وكف يده فهو آمن ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة فقال ما هذه وقد نهيت عن القتال. فقالوا : إن خالد قُوتل وبُدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتلهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن لخالد : لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال ؟ فقال : هم بدؤنا بالقتال وقد كففت يدي ما استطعت. فقال: قضاء الله خير.
ولفت إلى أن العباس قال: "بعد أن أسلم أبو سفيان وشهد شهادة الحق. يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا. قال: نعم. وأمر صلى الله عليه وسلم، فنادى مناديه من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن".
ونبه على أنه في ذلك كله ترى الدفاع المشروع وأن الجهل من الجاهل والعدوان من المعتدي هو سبب البلاء وفيها إنزال الناس منازلهم والتشاور في الأمر.
وروى أنه صلى الله عليه وسلم وضع رأسه تواضعًا لله لما رأى ما أكرمه الله تعالى به من الفتح حتى أن رأسه لتكاد تمس رحله شكرًا وخضوعا لعظمته تعالى أن أحل له بلده ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفرة وهو زرد ينسج على قدر الرأس مثل القلنسوة. وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان على رأسه عمامة سوداء، ولما كان الغد من يوم الفتح قام عليه الصلاة والسلام خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال : يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب، ثم قال : يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم. قالوا : خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء (أي الذين أُطلقوا فلم يسترقوا ولم يؤسروا) ولما فتح الله سبحانه وتعالى مكة على رسوله صلى الله عليه وسلم قال الأنصار فيما بينهم : أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على الصفا رافعا يديه فلما فرع من دعائه قال : ماذا قلتم : قالوا : لا شيء يا رسول الله. فلم يزل بهم حتى أخبروه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم.
واستطرد: "وهم فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضالة ؟ قال نعم يا رسول الله. قال : ماذا كنت تحدث به نفسك ؟ قال : لا شيء كنت أذكر الله. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : استغفر الله، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئًا أحب إلى منه".
وناشد النظر إلى معنى الصفح والعفو والصبر على الناس وإلى معجزته صلى الله عليه وسلم مع فضالة ففيها عبرة وعظة.
وتابع: "وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقته القصواء وهو مردف أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة ثم دعا عثمان بن طلحة فقال ائتني بالمفتاح فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه. فقال : والله لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي فأعطته إياه فجاء به النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه ففتح الباب. رواه مسلم".
واستكمل: "وفي الطبقات لابن سعد عن عثمان بن طلحة قال كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فأغلظت له ونلت منه فحلم عني، ثم قال: يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت. فقلت : لقد هلكت قريش يومئذ وذلت. فقال: بل عمرت وعزت يومئذ، ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعًا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال فلما كان يوم الفتح قال: يا عثمان ائتني بالمفتاح فأتيته به، فأخذه مني ثم دفعه إلى وقال خذوها خالدة نالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. قال: فلما وليت نادني فرجعت إليه. فقال : ألم يكن الذي قلت لك. قال: فذكرته قوله بمكة قبل الهجرة ولعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت. قلت : بلى أشهد أنك رسول الله، وفي عثمان هذا نزلت آية: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء :58]".
واختتم: "وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دخل هو وأسامه بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الكعبة فأغلقوا عليهم الباب. قال ابن عمر: فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالًا فسألته هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال : نعم بين العمودين اليمانيين وذهب عني أسأله كم صلى وفي إحدى روايات البخاري جعل عمودا على يساره وعمودا على يمينه وثلاثة أعمه وراءه وفي كتاب مكة للأزرقي والفاكهي أن معاوية سأل ابن عمر أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة أذرع فعلى هذا ينبغي لمن أراد الإتباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع فإنه تقع قدماه في مكان قدميه صلى الله عليه وسلم إن كانت ثلاثة سواء أو تقع ركبتاه أو يداه ووجه إن كان أقل من ثلاثة أذرع والله أعلم قال تعالى : «وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» [آل عمران :97] صدق الله العظيم".