تتمزق الملامح والأمنيات على أعتاب بيت صغير داخل قرية صغيرة بموت شاب ثلاثينى , فتبدأ الرواية فى الصفحة الأولى بمشهد الموت , ولم يكن يعلم أصدقائه وتلاميذه أن مشهد الموت هو البداية وليس كالنهاية الطبيعية الموجودة فى باقى الروايات , وأن البطل سيظل موجودا بكتبه وأشعاره وقصائده الململة صدفة, حينما باعوا منزله الذى اهتدىإليه كثير من شعراء مصر الكبار وتعلموا فيه وتبادلوا القصائد وأبيات الشعر وأنغام الطرب.
"حينما يستيقظ النهر" , كان عنوان الحلقة التى ذاعتها أمس قناة النهار من برنامج "باب الخلق" والذى يقدمه الإعلامى محمود سعد , لتتحدث الحلقة عن حياة الراحل أحمد عبيدة أحد شباب الحركة التنويرية فى السبعينيات , هذه الحلقة أعلنت للجميع أن مصر مليئة بالعظماء الذين تتفق وتختلف معهم , مليئة بالعشاق الذين يعشقون تراب الوطن , ولديهم إستعداد فطرى فى بذل الغالى والنفيث من أجل النهوض بمقومات الوطن الأساسية بداية من الفكر والإبداع وصناعة الرقى المادى والمعنوى , كما أن هذه الحلقة أزاحت الستار عن عقول يملأها التراب , وعيون لا ترى النور , وقلوب نائمة فى سبات طويل , وأنفاس كريهة , وشماتة لا مبرر لها , وغضب ليس له داع , وإنتقاد لأشياء جميلة لها قدسيتها , وعواء يتردد من ألسنة خرساء تحت عيون لاترى النور , ولا ترى حتى تحت قدميها .
الحلقة سلطت الضوء ناحية شاب لم يعش أكثر من 34 عاما , لكن عاشت ذكراه واشعاره وملامح تكوينه فى أقرانه واضحة كوضوح الشمس , وكأنه لم يدخل القبر ولم يتحلل الجسد فالروح دائما أقوى من الجسد , وروح أحمد عبيدة سكنت وأستقرت فى أجساد الكثير والكثير ممن عايشه فى عصره أو حتى من سمع عنه ولم يراه , لدرجة أننا أبناء جيل , فارق الزمن بينه وبين جيل عبيدة كبير , ومع ذلك نشعر أننا نراه فى كل مكان داخل قرية العمار , إحدى القرى التنويرية والتى يٌضرب بها المثل فى نشر الثقافة والفنون , فالعمار هى قرية الوجهاء , ليس لأنهم يمتلكون مالا أو قصورا أكثر من غيرهم , ولكن لديهم من الفكر الواعى ما يؤهلهم أن يعلنوا بكل فخر أنهم أبناء قرية حطمت كل قيود الظلام بالوعى والإبداع المتوارث عندهم جيلا بعد جيل , فالعمار كانت ومازالت تضع حدا فاصلا للجهل والعلم لمحاربة الوحدة الموحشة والظلمة والعدم والخواء وزيف الحياة , للبحث عن الحرية .
أحمد عبيدة رحل وترك ورائه إرث عظيم , ترك ذلك الإرث فى أعماق البشر الذين تعلموا منه وتناقلوا روحه , ترك هذا الإرث حينما أعلن أن فى أعماق البشر بحورا لا تقل فورانًا وتقلبات بين حركات المد والجزر , حينما أعلن أن نفوس البشر كالبحور التى تمتلأ بالحيتان وأسماك القرش المتوحشة , وجواهر وددر وأحجار كريمة , فكان هدفه الدائم تنقية نفوس البشر وكأنه يحمل رسالة السلام الإجتماعى الذى يصطحب صاحبه الى أعلى المراتب الدنيوية , ذلك الشخص المتصالح مع الجميع لم يكن يدرى فى يوم أنه سيكون الضحية , ومع ذلك قبل أن يرحل جمع أكوام الحبوب من الثقافة والفنون ونثرها فى أرض العمار , فكانت أرض خصبة لإنبات عقول مستنيرة وقلوب مطمئنة وأفكار متقدمة إنتشرت فى باقى مدن مصر وربوعها , وواحد من الذين صناعوا تاريخ للعمار يقترن بها كإقتران شجرة المشمش.
ذلك الرجل لا يكفى الحديث عنه مقال أو حتى كتاب , فأحمد عبيدة واحد من الذين يجب أن يسلط الضوء ناحيتهم فى كل مراحل حياته , وحتى طريقة موته التى إختلف عليها وفيها الكثير , (وبرغم الإعتراض الكامل عليها ) , إلا أن طريقة موته كانت إعلان التخلى عن الحياة العبثية والمضمون الرتيب والأفكار المتجمدة والعقول المتحجرة , وكانت إعلان يدق ناقوس الخطر حول عبثية الوضع البشرى , وصرخة إحتجاج ضد واقع زائف وقاسى وعبثى , والتمرد على ثقافة القهر والمنع والتحريم والتكفير .
ياسادة .. إن أحمد عبيدة حالة يجب ان تتكرر فى كل الأزمنة وفى كل الأماكن , لتأخذ الأشياء دلالتها الحقيقية , وتتزايد أٌلفة المكان , وتظهر طاقات النور فى الليل , وإيجاد العالم المفقود دون الإحساس بالضياع أو أن الحياة تساوى الموت .