كنت قد كتبت أول أمس مقالا ببوابة الأهرام تحت عنوان "الغرب.. وداء الإسلام فوبيا"، اتساقا مع حادث مسجدي نيوزيلندا، المخلف وراءه واحدا وخمسين شهيدا مسلما على يد مرتكب المجزرة الأسترالي المتطر "برينتون تارانت "، وها أنا ذا أعود هنا لأكمل حديثى عن الاسلاموفوبيا، ذلك الداء الذى صار متوطنا عند الكثير من الغرب الأوروبي، والعديد من مجتمعات العالم الذى يعيش به مسلمون، بل لم يعد داء فحسب، بل أضحى إرهابا، وتطرفا، وعلاقة تخلو من قيم التسامح والاعتدال التي يتشدق بها مستشرقو الغرب وأتباعهم.
مرصد الإسلاموفوبيا التابع لدار الإفتاء المصرية صدق حين عرف مرتكبي تلك الأفعال بأنه من أنصار إرهاب اليمين الغربي، وهم أصحاب فكر منحرف مفلس، لا يختلفون عن الدواعش والجماعات المنحرفة الأخرى، وأنهم ذوو قلوب مريضة بعيدة عن المنهج الصحيح للأديان السماوية، وما هم إلا إرهابيون متعصبون لا يمثلون دياناتهم بقدر ما يمثلون منطق التحريف والإفلاس العقائدي والروحي.
وأزيد فأؤكد أن الاسلاموفوبيا إرهاب، يتدثر به المتطرفون هناك ويعتنقونه، بآثاره الفكرية والعملية، إنما يرجع -كما أخبرنى الكثير من علماء المراكز الإسلامية بالغرب الأوروبي وسماحة مفتى أستراليا- الى الدور السلبي المشبوه الذي تقوم به بعض وسائل الإعلام وأدوات التواصل الاجتماعي هناك، التي تعمل على تصوير الإسلام على أنه دين إرهاب يكره المخالفين ويعاديهم، ويزعم عدم وجود مشترك إنساني بين المسلمين ومخالفيهم في العقيدة، بهدف خلق حالة من العداء والكراهية والتحامل والخوف اللاعقلاني غير المبرر تجاه دين الإسلام والمسلمين، في عنصرية بغيضة وسلوك إقصائي ليس له مبرر معقول أو مقبول.
لكن رب ضارة نافعة، وصدق ربنا العظيم: "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (التوبة 32)، إذ كانت هذه المجزرة سببا في تسليط الضوء الساطع على إسلامنا بعقائده السمحة، المعتدلة، الرحمة، الرؤوفة، ومعتنقيه السمحاء، الأوفياء، الأنقياء لدينهم ومجتمعاتهم هناك، وكم كان عملا رائعا ما قام به السفير النيوزيلندىبالقاهرة "جريج لويس" من الذهاب لمفتى ديارنا المصرية فضيلة الدكتور شوقي علام لتقديم واجب العزاء في ضحايا حادث مسجدي مدينة "كرايستتشيرش" اللذين تعرضا للحادث الإرهابي الجمعة الماضية، مشيرا أنه جاء نيابة عن رئيس وزراء نيوزيلندا والشعب النيوزيلندي لتقديم خالص العزاء في ضحايا الحادث الإرهابي الأليم، مؤكدا رفض نيوزيلندا لهذا العمل الإرهابي الذي يهدد السلم المجتمعي، وأن المسلمين في نيوزيلندا جزء مهم من النسيج المجتمعي هناك، وأن بلاده تضم 200 عرْق و160 لغة يحظى أصحابها جميعهم بالاحترام والرعاية، وأن احترام التعددية من أكثر السمات التي تتسم بها بلاده، مستعرضاالإجراءات التي اتخذتها حكومة بلاده منذ وقوع الحادث، وأن حماية المواطنين كافة تأتي على رأس أولويات الحكومة، وأنهم حريصون على أن يشعر المسلمون هناك بالأمان والاستقرار.
وهنا أكد له الدكتور شوقي علام مفتى الجمهورية أن هذا الحادث الإرهابي الأليم يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الإرهاب لا دين له ولا وطن، وأن إلصاق التطرف والإرهاب بدين ما أمر خاطئ تماما، ولا بد أن يكون هناك وجوب تعاون دولي على جميع المستويات من أجل مواجهة هذا الفكر المتطرف والجرائم الإرهابية التي تنبذها كل الأديان وترفضها الفطرة الإنسانية السليمة، وأن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة النيوزيلندية بعثت برسائل إيجابية للمجتمعات المسلمة تدل على الجدية في رفض التطرف والإرهاب والحرص على تماسك المجتمع النيوزيلندي.
جميل ورائع تداعيات المجزرة، حضور رئيسة الوزراء النيوزيلندية "جاسيندا أرديرن" مع الآلاف من الشعب النيوزيلندي فى صلاة جمعة أمس، وبث آذان وصلاة الجمعة عبر التلفزيون والإذاعة الوطنية النيوزيلندية، مع إلقاء رئيسة الوزراء كلمة، استعانت فيها بحديث نبوى لتؤكد أن نيوزيلندا كلها تقف مع المسلمين، مما أشاد بها مرصد الجاليات المسلمة التابع للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم.
كما قال جمال فودة إمام المسجد الذى نجا من الموت الأسبوع الماضى فى خطبة الجمعة التى أقيمت شعائرها فى حديقة هاجلى بارك المقابلة لمسجد النور فى مدينة كرايستتشيرش، وهو أحد مسجدين الذين تم استهدافهما -بحضور الآلاف- إن نيوزيلندا لا تنكسر، داعيا قادة العالم إلى القضاء على خطاب الكراهية، مضيفا: يوم الجمعة الماضى وقفت فى هذا المسجد ورأيت الكراهية والغضب فى أعين الإرهابيين، واليوم ومن نفس المكان أقف وأرى الحب والتعاطف فى أعين النيوزيلنديين والبشر من جميع أنحاء العالم، فيما جلس الناجون من الحادث الإرهابى المروّع على كراسى متحركة فى الصف الأمامى، وخلف المصلين تجمع الآلاف من النيوزيلنديين غير المسلمين وبينهم رئيسة الوزراء "جاسيندارأرديرن"التى ارتدت هى والنساء الحجاب لإبداء الاحترام، وألقت كلمة أمام الحاضرين، قالت فيها: "نيوزيلندا تنعى معكم، نحن واحد"، واستشهدت بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، كما بادرت رئيسة وزراء نيوزيلندا بارتداء الحجاب عقب الحادث المروع، مما لاقت استحسانا من قبل النساء فى بلادها اللاتى قمن بارتداء الحجاب أيضا، وقامت بعضهن بنشر صور لهن وهن يرتدين الحجاب تحت هاشتاج "الحجاب من أجل التوافق"، و"الحجاب تضامنا" ، ودعم هذا مجلس النساء المسلمات فى نيوزيلندا ورابطة المسلمين فى البلاد.
فيما أكد مرصد الجاليات المسلمة أن اليمينى المتطرف الذى ارتكب المذبحة البشعة سعى إلى نشر الفتن والكراهية بالمجتمع الغربى عامة وفى نيوزيلندا على وجه الخصوص إلا أنه نشر بدلا منها الحب والتآلف والمودة.