يعيش أردوغان الممثل الرمزي لآخر من ادَّعى خلافة الإسلام السياسي، بداية احتضار مشروع الإسلام السياسي، الذي ولِدَ منذ قرونٍ عديدة في أعقاب معركة صفين والمستمر حتى راهننا مستغِلًا جميع الأساليب والطرق للبقاء في السلطة تحت حجة أنهم من يمثلون الله على الأرض، مستغِلين مقولات دينية لإقناع البسطاء من الناس من الذين اعتنقوا الدين بفطرتهم، على أنهم من "أولي الأمر" ويجب طاعتهم مهما كانوا ظالمين، مع العلم أن جميع الأديان نزلت من أجل محاربة ظلم واستبداد الأمراء والأباطرة، والتي ابتدأها سيدنا ابراهيم في تحطيم جميع الأصنام التي كانت تعبد.
ويمكننا القول إن ابراهيم الخليل هو أول حركة معارضة لنظام الظلم والطغيان وجبروت الحكام الذين جعلوا من أنفسهم آلهة ونماردة عصرهم، ومن بعده كان سيدنا موسى الذي حمل لواء معارضة ظلم وجور الفراعنة، واستمرت عمليات مقاومة ومعارضة هذا الاستبداد مع سيدنا عيسى (المسيح) ضد ظلم الرومان، وكذلك فعل سيدنا محمد (ص) من بعده.
وما زالت حركات المعارضة ومقاومة الظالمين مستمرة حتى يومنا هذا ضد كل من أراد أن يجعل نفسه من الخالدين وأنه وكيل الرب على الأرض، ولم يكن آخرهم النظم المتسلطة على رقاب الشعوب في منطقتنا، إلا نسخة مسخة من الذين سبقوهم في الظلم والتمرد على المجتمعات والشعوب وجعل نفسها نمرود عصره.
لا يتعظ معظم الحكام المستبدين من التاريخ الذي يعلمنا الكثير من العبر والدروس وأنه ليس هناك "خالدًا" إلا الله الذي في السموات، وكل من على الأرض هو فانٍ، حاول جلجامش العثور على سر الخلود في الخارج ولكنه في النهاية رجع إلى قومه، وأدرك أن سر الخلود يكمن في محبة واحترام المجتمعات والشعوب وتأمين الرفاهية لهم، وليس بظلمهم وجمع الثروات والمال.
كل الحروب التي نعيشها الآن يقوم بها حكام ظالمون ومستبدون يخدعون شعوبهم على أن حربهم هي لإعلاء "كلمة الله" وهي حرب بين الهلال والصليب، لكن باطنها هي التمسك بالسلطة، التي أعمت بصيرتهم قبل بصرهم.
وما يردده أردوغان الآن على أن السبب هو أنه يمثل الخلافة الإسلامية وكل من يخالفه هو ضد إرادة الله ويحارب هذه الإرادة الإلهية، المصطلحات الدينية ما هي إلا تعابير يتم استخدامها من قِبل السلاطين والحكام لخداع الشعوب ودغدغة مشاعرهم لحماية سلطة الخليفة من الانهيار.
الإسلام السياسي وبغض النظر عن داعميه ومموليه الإقليميين والدوليين، إلا أنه بات حصان طروادة يتم استخدامه كأداة للقضاء على الشعوب والمجتمعات من الداخل، مستغلين بذلك مشاعر الناس وعواطفهم، وخير من يقوم بهذه الوظيفة هم الإخوان المسلمين، الذين يعملون أي شيء لمجرد الوصول إلى السلطة والتي تعتبر بنفس الوقت المكان المفضل لديهم لتمرير عقليتهم الاستبدادية وإنكار الآخر.
كلنا نُدرك أن الصليبيين هم من أوصل اردوغان إلى السلطة منذ نعومة أظافره وهم من قاموا بحمايته ودعمه حتى وصل إلى ما هو عليه الآن، ولكنها حقيقة كل من رضخ لمنطق الاسلام السياسي في أنه ينقلب على كل من سانده ودعمه حينما يصل لمبتغاه ويشتد عوده ويخرج من القمقم، فيكون المارد المتمرد على أصحابه ويصدق نفسه أنه يمتلك كل القوة والجبروت للقضاء على كل من يخالفه وإن كان من أقرب المقربين له، وما مثال أردوغان إلا تمثيل حقيقي لهذه الشخصية.
رسائل رمزية تسعى القوى الغربية إيصالها للكثير من الجهات وكما يُقال أن "اللبيب من الإشارة يفهم"، وهي أنه بإعدام صدام حسين كانت الرسالة أنه انتهى زمن الدولة القومية الواحدة من المحيط إلى الخليج، والذي كان يرفع رايتها صدام منافسًا بها حافظ وعبد الناصر، وها نحن نعيش المرحلة الثانية من الرسائل والتي ستبدأ مع القضاء على أردوغان والرسالة هي أنه انتهى زمن الدولة أو الخلافة الدينية المتزوجة عرفيًا مع الدولة القوموية.
بسقوط أردوغان لن تسقط فيها تركيا فقط، بل كل من يكان يدور في فلك الإسلام السياسي وسيكون هذا السقوط مشابها نوعًا ما لتساقط أحجار الدومينو تباعًا وإن كان على فترات متفاوتة، لكن المهم أن عملية السقوط قد بدأت، وكل ما سيليها هي مرحلة إعادة الترتيبات والاصطفافات والتوازنات من جديد.