مؤخرا طالعت على أحد مواقع السوشيال ميديا "فيس بوك" مقالا منشورا للكاتب الصحفى أحمد عبد الكريم عنوانه "لماذا لم يعد يرن التليفون كما كان فى الماضى "، واستفزنى العنوان بشدة ليس لشىء ــ لا سمح الله ــ سوى أنه موجود على صفحة الكاتب الكبير , فلماذا لم ينشر الكاتب هذا المقال فى جريدته الغراء " أخبار اليوم ؟!!، إلا أننى شعرت قبل قراءة المقال أن هناك رسالة يريد أن يصل بها الكاتب الى قرائه ومحبيه وأقاربه والعالم كله من حوله.
وشرعت فى قراءة المقال الذى كان معبرا عن حالة سخط واستياء واستغراب من الواقع الصحفى ـ المرير ـ كما يصف الكاتب , فمضمون المقال باختصار أن الرجل خرج على المعاش مؤخرا ولم يعد يشعر بالاهتمام الذى عايشه على مدار عمره الماضى والذى تجاوز منه الـ 65 " أطال الله فى عمره وأطال الله بقاءه ", بل وصل الأمر الى حد أن التليفون المحمول الذى يلازمه تمرد عليه هو الآخر , ولم يعد يرن كما كان فى الماضى , والرسالة التى يريد أن يصل بها الكاتب الى قرائه وأقرانه وأصدقائه أن أهمية الأشياء من أهمية صاحبها , فكلما تربع الشخص فوق القمة تقرب إليه الناس وتوددوا إليه وصاغوا له شعرا يتغنون به فى المحافل العامة وفى الغرف المغلقة , وحينما يترك الرجل عرشه يصبح من عامة الناس بل أقلهم شأنا ـ إن شاؤوا ـ وعامله الناس بما هو ليس أهله ونسوا كل قصائد الشعر التى كتبوها وتغنوا بها له فى الماضى.
استفزازى لم يكن جديدا , فهذه الحالة عايشتها مرات ومرات مع الكاتب الصحفى أحمد عبد الكريم ومع غيره من الكثيرين ــ ولا أنكر أننى كنت واحدا من هؤلاء فى وقت ما ــ فكلهم عايشوا نفس هذا الإحساس المشين , وكلهم دخلوا فى براثن التفكير لإثبات أن ما زال لهم وجود فى الحياة التى رسموها لأنفسهم وخاصة الحياة المثالية المملوءة بالكتابات والعبارات المنطقية والورد التى كانوا يوزعونها فى مقالاتهم وعباراتهم اليومية , والنصائح الدورية والإصلاح المجتمعى , فالكاتب يشعر أنه جندى فى ميدان المعركة وحينما يتخلى عن سلاحه يموت , وأيضا حيتما يتم التخلى عنه من جيشه يموت.
لذلك المقال الذى كتبه الصحفى الكبير كان بمثابة ناقوس الخطر الذى يدق ليعلن أن هناك قصورا كبيرا فى مهنة الصحافة والإعلام , فسلبياتها زادت واحدة , فحينما يتخلى العالم عن كاتب أفنى عمره وحياته بين السطور يدقق ويكتب ويصحح العبارات من أجل الإصلاح يجب أن نشعر أننا فى غابة تفتقد قيمة الحب والعطاء والعدل والإنصاف , فالإنصاف لهذا الرجل وأمثاله هو التكريم ووضعهم فى أماكن يستفاد من خبراتهم , بعيدا عن تصدير الأحاسيس السلبية والتى تميت صاحبها ملايين المرات وهو على قيد الحياة .
إن الكاتب الحقيقي له مطالب وعليه واجبات لا يكتب من أجل المال أو المجد أو الشهرة، أو بدافع أيديولوجي معين، بل يكتب لأنه مصاب بمرض الكتابة ويشتعل حماسا للتعبير عما يدور بداخله لصالح المجتمع , ومطالبه أنه لا يريد أن يشعر بالإهمال المتعنت فى زمن دون الآخر لأن كتابات الماضى لدى أى كاتب تجعله يعيش طيلة حياته وبعد مماته بما أعطاه , حتى وإن توقف عطاؤه بسبب الظروف الحياتية, فالكاتب هو رسول يبعث الكلمات من أجل الارتقاء ورفعة شأن الوطن , وطالما أن الكاتب لا ينقطع عطاؤه فلابد أن لا ينقطع أثره وذكره فى الوسط الصحفى والإعلامى الذى ما زال فيه الكثير من السلبيات والتى لا تكفى كتابتها مجلدات ضخمة.
يا سادة .. إن التخلى عن الكاتب هو بمثابة التخلى عن الوطن , لأن الكاتب هو أحد أعمدة الوطن الرئيسية فقدسية الكتابة نشأت بكل القيم الإيجابية المسلوبة هذه الأيام , لدرجة أن القدسية التى أتحدث عنها ضاعت هذه الأيام فى الطريق ولم يعد لها وجود , والقدسية التى أتحدث عنها كانت من المفترض أن تعمل على نشر القيم الإيجابية المتمثلة فى الوفاء والإخلاص للوطن ومحبة المواطنين جميعًا سواء اتفقوا معًا أم اختلفوا، بموجب ما يتمتعون به من خيرات مشتركة، وما يتعرضون له من خطر يهددهم جميعًا، وبما يجعل الوطن لكل المواطنين.