دائما ما يراودني التفكر في حكمة الموت الذي كتبه الله على كافة مخلوقات الأرض، من أعتى إنسان إلى أضعف حيوان يعيش على البسيطة، وذلك كلما عدت من زيارة المقابر؛ وكثيرًا ما سألت نفسي، ونحن نُولي ظهورنا للمتوفى عائدين إلى ديارنا، تُراه ماذا يود أن يقول الآن وقد صار وحيدًا في قبره، ربما يسمع ويشهد كل ما حوله، ولا يقوى على النهوض والرد، فقد ثبت علميًا أن المخ يظل ينعم بالحياة لبعض الوقت بعد خروج الروح من الجسد، وبرغم توقف آليات الجسم المعقدة عن العمل؛ وتذكرت عندما توفي والدي-رحمه الله- كنت أجلس بجوار أذنه اليسرى أتحدث إليه وكلي ثقة أنه يسمعني، وكلي يقين أنه لن يرد عليّ أيضًا.
لموكب المتوفي في قرانا طقوس خاصة تختلف عن المدن، حيث تخرج القرية بأسرها لتودع المتوفى وتصلي عليه وتشيعه إلى مثواه الأخير، والكل يدعو في صمت طوال موكب الجنازة منذ خروجها وحتى وصولها إلى نقطة اللاعودة. وينتشر المشيعون بين مقابر البلدة يقرأون ما تيسر من القرآن الكريم لأجل ذويهم، ويمكثون بعضًا من الوقت وكأنهم غنموا فرصة لن تتكرر بزيارتهم لمقابر ذويهم.
تركت أبي خلفي، ومع انتهاء عزاء المشيعين اللامحدود، جاء دوري لأغادر المكان، فظللت أنظر إلى باب القبر الذي أُحكم إغلاقه، وقد تسمرت قدماي، وتحجر الدمع في مقلتيَّ رغم حرارته، وأبى السقوط ليطفئ لهيب الألم الذي يعتصرني. وتساءلت في نفسي وأنا أنظر تلك المقابر: ماذا تركتم خلفكم ليستركم بعد رحيلكم؟ السكون وحده يخيم على المكان، والحس منقطع ولا خبر!
ذات يوم، زرت قريتي فقابلني رهط من شيوخها، فعرفوا طلتي وأدركوا هويتي، وإذا بواحد منهم يترحم على فلان ويذكر لي فضله عليه وأنه ستره في الدنيا، فستره الله في آخرته. وظل يحكي لي قصته معه، لأدرك أن العمل الصالح ستره في الدنيا وأبقى ذكراه رغم رحيله البعيد.
وقالت لي عجوز من أهل القرية، إن فلانًا أعطاها قيراطًا من الأرض لتبني عليه منزلًا لتستر أولادها، ولم يأخذ منها باقي الثمن، وتركه مساعدة لها في البناء؛ وظلت العجوز تدعو له بالرحمة والمغفرة وتسأل الله أن يستره في الآخره. فأدركت قيمة جديدة لمفهوم الستر، وكيف للعمل الصالح أن يستر الإنسان يوم يلقى ربه!
وعندما مررت بمدرسة القرية وجدتهم قد غيروا اللوحة لتحمل اسم فلان، فسألتهم لم فعلتم هذا؟ فجاء ردهم أنه هو من تزعم أعيان البلدة ليجمع تكاليف البناء، وأكمل من جيبه بقية المبلغ لنتمم به البناء، فصار بيتًا من بيوت العلم ينتفع بها الآلاف؛ وأهدانا مكتبته الخاصة لتصبح صدقة جارية على روحه. فقلت في نفسي حسنًا فعل، فالعلم يرفع قدر صاحبه حيًا ويحيي ذكراه ميتًا.
وعندما تقابلت مع أولاد فلان هذا، قلت ما شاء الله ترك ذرية صالحة، لم ينقطع دعاؤها لوالدهم طوال مجلسنا، وعندما رددت سيرته تساقط الدمع باردًا من أعينهم حزنًا عليه، رغم مرور سنين ليست بالقليلة على رحيله، وأدركت أنه ستر أولاده في الدنيا، فظل مستورًا بعد رحيله؛ وقلت في نفسي، لقد استطاع أن يُحيي ذكره في الدنيا ويستر نفسه في الآخرة، وكأنه اتخذ حديث رسول الله منهجًا له: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
وتبقى سؤال توجهت به لأحد مشايخنا: كيف يا مولانا نبقى ذكرى أحبائنا في الدنيا، ونرفع حسناتهم في الآخرة؟ أليس الوفاء للأب والأم بعد رحيلهما فرض عين؟ فأجابني: من العمل الصالح الذي يخفف عن الوالدين ويكتب لهما الحسنات في الدنيا بعد رحيلهما، الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة، والتصدق باسمهما، والحج أو الاعتمار عنهما، وقراءة القرآن لهما، ووصل من أحبوا أو صادقوا في الدنيا، وإشراك أقاربهما في الأضاحي، وإتيان الخير باسمهما، فجميع ذلك يزيد من حسناتهما في الدنيا إلى أن يأتي يوم النشور.