إن الإنسان نتاج وابن البيئة التي نشأ فيها، وتظل تلك البيئة مغروسة في وجدانه وروحه تظل مشكِّلة لعقله وفكره، لا يستطيع منها فكاكا، لو أراد، فما لنا إن أراد حفظا لها، وثباتا على ما نقشت فيه، وما تركت فيه من آثار.
مهما بعد الإنسان عن منبت رأسه، يظل الحنين يشده إليها شدا، ويظل القلب مفتونا بها افتنانا، والعقل معتمل بما فيها من أحداث، وما تخطوه من خطوات، تظل أمام ناظريه، ويظل في حالة مقارنة بينها وبين غيرها مما تطأه قدماه، ومما تراه عيناه.
شاءت الأقدار أن نكون - نحن الذين حزمنا حقائبنا مغادرين منبت رأسنا- أفضل حالا ممن اتخذوا تلك الخطوة في أجيال سابقة، تلك الأجيال الذين كانت تنقطع عنهم أخبار البلاد والأهل الذين تركوهم خلفهم، حيث لا فضاء إلكتروني، ولا مواقع تواصل اجتماعي، فكان يحق عليهم لفظة مغترب بكل قسوتها، وجميع تفاصيلها.
أذكر أنني في بداية سفري كنت أحرص على شراء جريدة الأهرام التي كانت تأتينا متأخرة يوما عن طباعتها، كما كنا نحرص على اصطحاب الجرائد التي توزع علينا في الطائرة بهدف قراءتها بتفصيل تام في مقر إقامتنا، وكنا نبحث عن محطات إذاعة عربية قبيل انتشار القنوات الفضائية التي كانت الفضائية المصرية أولاها عربيا، وكان حدثا هائلا حينما تم بث القضائية المصرية على القمر العالمي هوت بيرد، وكم كانت المتعة التي تحصّلنا عليها ونحن نشاهد نشرات الأخبار ونتابع الأعمال الدرامية ونشاهد الأفلام العربية والبرامج الحوارية، كان ذلك نقلة هائلة.
لم يكن يخطر على بالنا أننا يمكن أن نعيش تفاصيل حياة البيئة التي عشنا فيها وترعرعنا بين ربوعها، ولم نكن نحلم أن نحيى آمال وطموح أبناء جلدتنا، ولم نكن نظن أنه يمكن أن نتفاعل مع تلك المشكلات التي طرأت على المجتمع الذي قضينا أروع أيام حياتنا في دروبه.
ولكن بفضل العلم حدث كل ذلك، وعشنا حياتين: واحدة في المجتمع الذي رضي استقبالنا فيه ورحب بحياتنا مع اهله - ليوبن النمساوية - وأخرى حيث يهوى القلب وتعشق الروح - ليسا الجمالية بمحافظة الدقهلية بجمهورية مصر العربية- التي نفرح بما يفرح أهلها، ونحزن لما يحزن أبناؤها، ونفخر بما يحققه أبناؤها من نجاحات، ونتألم لأي إخفاق لأي من أهلها، ويظل إيماننا بأنها تمثل الحالة المصرية بكل تفاصيلها، فهي مرآة بالنسبة لنا لكل ما يحدث في مصر، التي تغيرت كثيرا عما سبق من سنوات، ذلك التغير الذي ينظر فيه أبناء ليسا الجمالية ليدعموا كل ما من شأنه أن يفيد المجتمع الذي يعيشون فيه، ويصححوا كل ما من شأنه أن يمثل عائقا في حياة أبنائهم، فيخرج منهم الحكماء - كما هو الشأن في البيئات المصرية المختلفة - محاولين ضبط الأمور وجعلها تسير في مسارها الصحيح، وهو ما تم من أبناء ليسا الجمالية الذين أعلنوا الأسبوع الماضي عن اجتماع عام لمناقشة أحد أخطر القضايا التي تصيب المجتمع المصري - خاصة المناطق الريفية منه - وهي قضية الزواج وما يتبعها من مظاهر مختلفة يأتي على رأسها تلك المغالاة في الشبكة والعفش الذي يتم زفافه في موكب مشهود تتباهى به الأسر فيما هي قد جهزت به العروس؛ ذلك الذي يحمِّل كاهل الأسرة ما لا طاقة لها به، وذلك نفسه الذي يجعل مشروع الزواج قريب من المستحيل لقطاع كبير من الشباب، الذي هو ابن المنطقة - التي تتشارك مع أغلب المناطق المصرية - الذين هم ممن يطلق عليهم محدودي الدخل ومن العائلات التي خرجنا منها وهي رقيقة الحال.
إن التقليد هو سمة المناطق البسيطة، ذلك التقليد الذي فرض على الفقراء ما فرضه الميسورون على أنفسهم، فأصبحت الحاجيات التي ليست ضرورية وليس لها أي قيمة في الحياة، بل لا يتم استخدامها طوال العمر، تصبح أساسية أو بالأحرى يجعلونها عنوة أساسية في جهاز العروس، ليتحمل أهل العروس ما لا قبل لهم به، فتلجأ تلك الأسر للاستدانة ولا تستطيع في الأغلب الأعم الوفاء بهذه الديون، كما تصبح تلك المظاهر عائقا في عملية الزواج ومن هنا تنشأ المشاكل الاجتماعية العنيفة.