ونحن نحتفل بالذكرى السادسة والستين لثورة 23 يوليو 1952م يتبارى المحللون والمؤرخون في تناول أحداثها، ومنهم المؤرخ الكبير أ.د. عاصم الدسوقي، الذي تناولها في ندوة ثرية بمسرح الهناجر الخميس الماضي، تحدث فيها عن وثيقتين إنجليزيتين، الأولى منهما تعود لنهاية العام 1949 والثانية تعود لأوائل العام 1951م.
وتعكس هاتان الوثيقتان أن مصر كانت في حالة غليان اجتماعي وفقر يطحن عظام الفلاحين والعمال وأنها على شفا ثورة سيقوم بها المصريون، بسبب التباين الاجتماعي الحاد والقوانين الظالمة بدءًا من دستور 1923 لصالح الطبقات الثرية في مصر. وقد استثمرت الإدارة الأمريكية هذا الوضع جيدًا، ومن ثم تتبع المؤرخون فترة التقارب الأمريكي-الناصري خلال الخمسينيات من القرن العشرين جيدًا، لاسيما وأن من قاموا بالثورة التي أطاحت بالملك جاءوا من بين تلك الطبقات الاجتماعية المتوسطة ودون المتوسطة، وجميعهم كانوا في ريعان الشباب، ليسوا ممن مضى بهم العمر أو ممن اضطلعوا بالسياسة وألاعيبها بين القصر والإنجليز، بل كان الإصلاح الاجتماعي واستقلال الإرادة المصرية ومبادئ الثورة الستة شغلهم الأول والأخير، وهو ما عكسته حزمة القوانين والإصلاحات التي اتخذت بعد ذلك.
ليس هذا لب المقال فحسب، بل أود أن أشير إلى البعد القومي العربي في فكر الرئيس عبد الناصر، الذي رفع شعار القومية العربية، التي توحد العرب من المحيط إلى الخليج، وهي الأفكار التي ألهبت العرب جميعًا ووجدوا فيها ضالتهم في مقاومة الاستعمار الإنجليزي/الفرنسي/الإيطالي باتحادهم جميعًا. وطافت فكرة القومية العربية بعقول العرب إلى أقصى مما يتخيلون، فظهرت فكرة الجمهورية العربية المتحدة التي جمعت مصر وسوريا، ولا أنسى مشهد الحلبيين الأشقاء وهم يرفعون سيارة ناصر على أكتافهم وهي تجوب شوارع حلب الشهباء. ولم يكن مستغربًا لي عندما زرت حلب عام 2006 للمرة الأولى أن سألني أحد الأشقاء السوريين قائلًا لي: أنت من بلد الزعيم؟ هل زرت ضريحه؟
لا شك أن فكرة القومية العربية سدت فراغًا في الذات العربية ودفعت العرب لأن يمضوا بحلمهم نحو إقامة وطن عربي موحد، لا حدود سياسية فيه؛ وهي الفكرة التي قاومتها بعض الملكيات العربية التي رأت فيها تهديدًا مباشرًا لها. وهنا يجب أن أقف عند الفنان العربي الذي ساهم في ترسيخ فكرة القومية العربية، وأذكر هنا اثنين من الكبار هما الفنان عبد الحليم حافظ والموسيقار فريد الأطرش.
من المعروف أن عبد الحليم حافظ التقى للمرة الأولى بالجمهور عندما غني بالإسكندرية أول أغانيه "صافيني مرة" في عام 1952، والتي لم تلق استجابة من الجمهور، وكان قد سجل للإذاعة قبلها أولى أغانيه باسم "لقاء". غير أن قيام ثورة يوليو حمسته كواحد من أبناء الفلاحين المصريين، ليتفاعل مع الثورة، التي وجد فيها طريقًا إلى قلوب الجماهير، وقدم عددًا من الأغاني ليدعم بها الثورة، وهي بالترتيب: العهد الجديد 1952، إحنا الشعب 1956، الله يا بلدنا 1956، ابنك يقولك يا بطل، الوطن الأكبر وحكاية شعب 1960، الجزائر ومطالب شعب 1962، صورة صورة 1966، عدى النهار وأحلف بسماها 1967، البندقية اتكلمت 1968.
ومن تلك الأغنيات الوطنية التي قدمها جزء من أوبريت الوطن الأكبر، والجزائر، وهما ذات بعد قومي/عربي، وإن كان أوبريت الوطن الأكبر يحسب للموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي حاكى فيه رؤية الموسيقار فريد الأطرش التي سبقه بها عندما قدم عام 1949 أوبريت "بساط الريح"، ذاك البساط الذي يطوف سماء البلدان العربية جمعاء ليوحد بينها. وما دون هذين العملين، انصبت أغاني حليم الوطنية على أحداث داخلية كبناء السد العالي، أو نكسة 1967 أو شخص عبد الناصر ذاته.
أما الموسيقار فريد الأطرش فقد فاق حليم بمراحل كثيرة في الأغنية الوطنية/القومية آنذاك، ربما بسبب ثراء موسيقاه وشرقيتها الصميمة مع عزوبة صوته أو بسبب الفارق الزمني بينهما الذي يقرب من عشرين عامًا، حيث تغني فريد للمرة الأولى في الإذاعة المصرية عام 1934 بأغنية "ياريتني طير"-وهي فترة طويلة حفرت لفريد الأطرش مكانة في قلوب الجماهير العربية- أو ربما بسبب تكوين فريد النفسي كأمير عربي كان ينشد ذاته.
لقد سيطرت فكرة القومية العربية على وجدان فريد الأطرش ووجد في شخص عبد الناصر ضالته التي قدمها في أوبريت بساط الريح، وبدأ في ضخ الكثير من الأغنيات القومية التي روجت لفكرة الزعيم ولفكرة القومية العربية.
وكان من أولى أغنياته عقب الثورة مباشرة أغنية "نشيد البعث"؛ وتأتي أغنيته "المارد العربي"، لتجسد كلماتها فكرة المارد الذي لا يهزم، والذي يمتطي صهوة جواده منطلقًا بين أرجاء الوطن العربي، وطنه في كل مكان، في دجلة في عمان، في مصر في لبنان والمغرب العربي؛ وبدأ اللحن بإيقاعات سريعة تشبه إيقاعات الخيل المتلاحقة، كما لو كان جوادًا عربيًا يركض بصورة متصلة، وفي نهاية الأغنية يبين أن المارد العربي يكمن في شخص جمال الذي صنع المارد العربي. ثم يغني للعروبة بعد ذلك أغنية "علم العروبة"، التي تعلي كلماتها من فكرة العلم العربي الذي يرفرف في سماء الوطن العربي؛ "وإحنا لها"؛ "وبورسعيد"؛ "واليوم يوم الشعب"؛ "ويا بلادي"؛ "وياسطى سيد".
ولم ينس فريد الأطرش عبد الناصر ذاته فغنى له "حبيب حياتنا كلنا"؛ "وحيوا البطل"؛ "وحبيبنا يا ناصر"؛ ويا حبيب الشعب العربي". أما "نشيد الفداء" فمن أجمل ما غنى للعروبة والذي يقول فيه: إن للباطل جولة، قل لهم أين المفر، فلهم يوم أمر، قد تآخينا هلالًا وصليبًا...وكان لوحدة مصر وسوريا نصيب في أغنيته "مبروك ع الأمة العربية". وهناك الكثير مما يمكن قوله حول فكرة القومية التي أطلقها ناصر وتناولها فريد الأطرش في فنه ليؤصلها في نفوس محبيه من المحيط إلى الخليج.
وأخيرًا يمكن القول إنه إذا كان حليم قد تناول الأغنية الوطنية (في الحقبة الناصرية) بمذاق مصري خالص، فإن فريد الأطرش كان أكثر بعدًا حين تناولها من منظور القومية العربية، ليوحد بها العرب ويجمعهم على فنه من المحيط إلى الخليج.