من المشاهد المألوفة لكل من تطيء قدماه شوارع باريس أو برلين أو روما أو موسكو أو غيرها من المدن والعواصم الأوروبية الكبرى مشهدان: المشهد الأول هو لعازفي الأكورديون أو الجيتار أو الكمان على وجه التحديد الذين يقفون بشموخ وعزة نفس وملابس أنيقة عند محطات المترو يعزفون مقطوعات موسيقية لا وصف لجمالها، ويترك لك التقدير، لقاء ما سمعت واستمتعت. والمشهد الثاني هو الرسامون الذين ينتشرون على جانبي الشوارع الكبيرة المشهورة كشارع الشانزليزيه بباريس أو كودام ببرلين وغيرهما ويجتهدون في رسم لوحات بديعة الألوان، ولا بأس أن يبدأون في رسم بورتريهات لكل من يطرق بابهم، ويترك التقدير لك لقاء ما صنعت يداه وأتحفتك بما تمنيت أن تراه.
ومع استمرار السير في تلك الشوارع يكتشف المرء المزيد من مواطن الجمال، التي تسر الناظرين، لعل أبرزها جمال البنايات العتيقة ونظافة واجهاتها، وهدوء المارة في الشوارع وانتظامهم، واحترام المشاة لقادة المركبات، وتقديس قادة المركبات لحق الطريق، والمقاهي التي لا يمكن أن تجذب السائحين قسرًا، أو تسمعهم نكاتًا وألفاظًا غريبة عليهم.
أذكر قصة حكاها لي صديق مقيم في برلين، أنه ذات يوم سقط منه مفتاح الحقيبة في مصفاة للمطر، ولم يتمكن من الوصول إليه؛ فاتصل بالدفاع المدني وحكى لهم القصة، فقالوا له سيصلك فريق الإنقاذ خلال خمس دقائق؛ إلا أن الفريق تأخر عليه عشر دقائق إضافية. ووصل الفريق الذي ضرب كردونًا حول المصفاة، وشدوا الخيوط البلاستيكية هنا وهناك تأمينًا للمكان. وبدأ الفريق في العمل، وأخيرًا أُخرج المفتاح. ولم يقوموا بتسليمه إياه، بل أخذوا في غسيله وتعقيمه، ثم ردوه إلى صاحبه مع الإعتذار أنهم تأخروا عليه عشر دقائق، وأنه يحق له تلقي تعويضًا عن تلك الدقائق العشر مقداره كذا يورو.
وفي يوم من أيام شتاء موسكو القارس، شاهدت للمرة الأولى الثلج يتساقط علينا كالعهن المنفوش، وموجات البرد لا وصف لها عند سيبويه، وهممت بالركض لأصل الفندق سريعًا، وبرغم أن مفتاح إشارة الطواريء المثبت على أعمدة الإشارات مخصص للعجائز والمرضى فقط، فقد ضغطت عليه، لتتوقف السيارات فجأة كي أعبر الطريق، ولم أسمع سائقًا واحدًا سبني أو نهرني أو أخرج رأسه من شباك سيارته وقال لي "يابن الـ..." إنهم يلتمسون الأعذار، ويقدرون الإنسان.
ومن المشاهد اللافتة للنظر أيضًا تلك الجداريات التي قد تراها هنا أو هناك، وتلك الرسومات التي ارتسمت على حائط برلين مثلًا لتقص على الناظرين حكايات لها تاريخ، وعلى قدر ثقافتك ستسوعب قولها. وكلما انتقلت هنا أو هناك ستجدها تهمس إليك بكل ما تشتهي أن تسمعه الأذن، وبكل ما تتوق إلى رؤياه العين.
وأعود إلى حبيبتي، قاهرتي، أطوف ببصري ثلاثمائة وستون درجة، لأشاهد ما اعتادت عليه عيني، وأسمع ما ألفته أذني طوال سنين خلت. فقد اعتدنا على عبوس شوارعها، وعشوائية المارة، وتجاوزات السائقين، والزحام غير المبرر، والسلوك العام الذي يعكس تفاوت الأخلاق. ولم نعد نتحدث كثيرًا عن تلك المشاهد، بل ينصب حديثنا اليومي عن كيفية النجاة منها، فقد يرتطم سائق متهور بسيارتك من الخلف، وتشرع في عتابه فإذا بحنفية سفالة غير منقطعة النظير؛ وقد تصيب كتف أحد المارة عن غير قصد، فلا تسمع سوى عبارة واحدة "مش تحاسب...انت اتعميت"! عادي...المهم إنك بخير. ودومًا سؤالي المُلح هو: إلى متى؟ هل ضاع الأمل وتسرب من بين أيدينا، وكُتب علينا أن نحيا هكذا؟
وإذا بالسماء تنفرج في رمضان الكريم ذات يوم مبشرة بالأمل، وتثبت أن هناك من يملك القدرة على التغيير، لمن أعطيناهم الثقة بالنفس، وزرعنا في أنفسهم حب الأوطان، والفناء من أجلها. مائة شاب وفتاة صائمين، واصلوا الليل بالنهار، على الأرض يقفون، وفي الهواء يتعلقون، وبالأوناش يُرفعون، كي يرسموا فلاحة مصرية، أو نوبية، أو بدوية لها أوجه عديدة، وتحكي حكايات طويلة، لمن يفهم قولها. جدارية طولها يقترب من ثلاثمائة متر، وارتفاعها يصل إلى سبعة أمتار ونصف المتر، هي نتاج فريق طلاب من جامعة عين شمس، قرر أن يتبني حلم أحد أبناء مصر العاملين بإدارة حي الوايلي، وقرر أ.د. عبد الوهاب عزت، رئيس جامعة عين شمس، أن يتبنى الحلم، ليصبح حقيقة. وتحدى الفريق حرارة الشمس، لينتهي من تلك الجدارية في شهر بالتمام والكمال، ويصبح لدينا جدارية بمذاق مصري خالص، رسمت لوحاتها على أسوار المدينة الجامعية؛ متألقة بصورة ملفتة للنظر بألوانها الجريئة، لتضفي بهجة على المنطقة، وتدعو المارة للتأمل والتفاؤل، والنظر إلى جمال مصر الحقيقي الذي تعكسه عناصر الجدارية، والتوكيد على أننا لن نرتقي إلا إذا كنا يدًا واحدة...نعم، معا سنرتقي. والآن أدعوكم للزيارة.