قوافل الشهداء.. وملحمة الفداء والبطولة في الجيش المصري (2)

يتحدون جميع المشاعر الإنسانية.. يستقبلون خبر استشهاد أحد أفراد الأسرة بالتكبير والتهليل وأحيانا الزغاريد.. ولم لا وقد صنع شهيدهم مجدًا تتوارثه الأجيال ليبقى أبد الدهر سجلًا مشرفًا في التضحية والبطولة وقد رفع رأس عائلته إلى عنان السماء مع صعود روحه الطاهرة إلى بارئها .. ثم تأتي سيمفونية "افرحي يا أم الشهيد دلوقت في احلي نشيد.. لم يمت من مات لله ويا اقصاه المجيد" لتحول دموع الحزن إلى فرحة غامرة ربما تفوق زفة العريس في يوم عرسه.
وتضعنا هذه الحالة أمام تركيبة نفسية فريدة من نوعها ربما لا تصادفها إلا في أرض الكنانة مصر.. حيث تجد بشرًا يستحبون الشهادة في سبيل الله والدفاع عن الوطن على الحياة وسط مخاطر تحيق ببلدهم الأمين مصر.
واستمرارا للحرب المقدسة التي يخوضها أبطال القوات المسلحة البواسل ضد العناصر والتنظيمات الإرهابية.. لا تتوقف قوافل الشهداء الذين يبذلون دمائهم وأرواحهم فداء لكل حبة رمل وتراب في بلدهم.. ويذخر سجل فدائي الجيش المصري ببطولات وقصص هؤلاء الأبطال، ومن بين هذه المحطات البطولية التي لا تنسى والتي تمتلئ بها صفحات النضال التي تزين كل الصحائف:
الشهيد حازم أبو المعاطي
وتحتوى قصة بطولة الرائد الشهيد حازم أسامة أبو المعاطى، قائد كمين النقب بالوادي الجديد، الذى استشهد هو و8 آخرون من أبطال قوات الشرطة البواسل، فصولًا أخرى من الشجاعة وحب الوطن، وذلك بعد قيام مجموعة إرهابية بمهاجمة كمين النقب فى محافظ الوادى الجديد، وعلى بعد 80 كيلو من مدينة الخارجة، فى 16 يناير 2017.
الشهيد المولود فى منطقة «الورديان» بالإسكندرية، من مواليد عام 1987، وتخرج فى الشرطة عام 2008، ولديه طفلان هما: مهند 5 سنوات، وفرح 3 سنوات، وعمل بقسمى شرطة الدخيلة ومينا البصل قبل أن ينتقل للعمل بمديرية أمن الوادى الجديد منذ عامين، وكان من المقرر أن تنتهى خدمته فى الوادى الجديد نهاية العام الجارى، ليعود مرة أخرى للإسكندرية، وكانت آخر زيارة لأسرته وأهله قبل استشهاده بـ 10 أيام.
قال العميد حسام أبوالمعاطى، والد الشهيد، إن الشهيد لقى ربه فى الساعة السابعة والنصف مساء، بعد الاشتباك مع العناصر الإرهابية لمدة 20 دقيقة، ورفض أن يترك موقع الكمين هو ورجاله، وظل يتعامل مع العناصر الإرهابية حتى استشهد ومعه 8 آخرون من أبطال الكمين البواسل.
وأضاف والد الشهيد أن ابنه اتصل بوالدته فى نفس يوم استشهاده، واطمأن على زوجته قبل استشهاده بفترة ليست كبيرة، لافتًا إلى أنه عندما استقبل جثمان نجله شعر بالفخر، وحضر الجنازة قيادات أمنية وعسكرية وتنفيذية والعشرات من محبى الشهيد، وارتفعت حينها أصوات الهتافات، «لا إله إلا الله الشهيد حبيب الله، القصاص القصاص، الله أكبر، فى الجنة يا شهيد».
الشهيد احمد الدرديري
تروي زوجة الشهيد العقيد أركان حرب أحمد عبدالحميد الدرديرى، أحد أبطال القوات المسلحة، الذى قدم نموذجا رائعا فى التضحية والإيثار، والذى استشهد فى الهجوم الإرهابى المسلح على أحد كمائن سيناء، كيف كان زوجها الشهيد يحب وطنه بشدة، وكانت البطولات العسكرية لأبطال وقادة حرب أكتوبر العظماء قدوته ومثله الأعلى فى التضحية والفداء.
فى البداية، قالت السيدة ياسمين مصطفى، زوجة الشهيد، إن زوجها التحق بالكلية الحربية عام ٩٧، وتخرج فيها عام ٩٩- دفعة ٩٣ حربية، والتحق بسلاح المشاة، وعمل بالجيش الثانى الميدانى بمدينة القنطرة فى الإسماعيلية، ثم سافر إلى السودان ليشارك فى قوات حفظ السلام، وكان ذلك فى عام ٢٠٠٥، وذلك عقب زواجنا بـ ٣ أشهر، واستمرت فترة خدمته هناك لمدة عام، ثم عاد بعد ولادة نجله الوحيد عمر بـ ٣ أشهر، ثم أكمل خدمته فى الجيش الثانى الميدانى، ثم الجيش الثالث الميدانى.
وأضافت أن البطل الشهيد شارك فى التدريبات المشتركة التى نظمتها القوات المسلحة مع المملكة العربية السعودية ضمن قوات المشاة، حيث ربطته علاقات وطيدة مع عدد كبير من زملائه الضباط بالجيش السعودى، وذلك لدماثة خلقه وطيبته، متابعة أنه بعد إنهاء فترة التدريبات المشتركة عاد ليخدم فى الكلية الحربية لمدة ٤ سنوات، ثم التحق بكلية القادة والأركان، وحصل على الدورة ٦٣ أركان حرب، ليعود مرة أخرى إلى صفوف الجيش الثانى الميدانى بالقنطرة، وخلال هذه الفترة قدم عدة طلبات أبدى فيها رغبته الشديدة فى المشاركة فى العمليات العسكرية فى سيناء، أو رفح أو الشيخ زويد أو العريش، وكل ذلك كان سرًا دون علمنا على الإطلاق، وتمت الموافقة على طلبه ليبدأ العمل فى الشيخ زويد فى شهر أبريل من عام ٢٠١٥، حيث أوكلت إليه مهمة الإشراف على تأمين سلسلة كمائن بالشيخ زويد، وهى كمائن سدرة أبو الحجاج، والمعروفة بكمائن الزلازل، والتى كان الهدف من إقامتها قطع الطريق على الجماعات الإرهابية، بسبب تكرار الهجوم الإرهابى المسلح على بعض النقاط الأمنية.
وأضافت زوجة الشهيد أن هذا العمل كان يتطلب منه المبيت يوميًا فى كل كمين بالتوالى، لافتة أنه كان يمارس مهام عمله وسط زملائه من الجنود والضباط فى جو أسرى ويشاركهم إفطار رمضان، متابعةأنه فى يوم 7 يناير الماضى حدث هجوم إرهابى على ٦ كمائن فى تمام الساعة السادسة صباحا، واقتحمت الكمين سيارة مفخخة، وقامت قوات الكمين بتدميرها قبل وصولها إلى الكمين، ثم تلت ذلك محاولة اقتحام أخرى للكمين بسيارات دفع رباعى تضم كل سيارة ما يقرب من ٢٠ أو ٢٥ عنصرًا إرهابيًا، فقام الشهيد بتفجير سيارتين قبل وصولهما إلى الكمين، واستشهد أحد زملائه الضباط خلال العملية، ثم أعقب هذا الهجوم هجوم آخر عن طريق مسلحين على درجات نارية يحملون الرشاشات، وعلى الفور تعاملت معهم كل قوات الكمين ونجحت فى تصفيتهم، وأصيب الشهيد فى قدمه اليمنى، لكنه واصل القتال حتى أصيبت قدمه الأخرى، وخلال هذه المعركة الضارية أوشكت ذخيرة الكمين على النفاد، فأعطى أوامره لجنوده بالاحتماء داخل مدرعاتهم، والذهاب لكمين آخر لإمدادهم بالذخيرة، فرفض الجنود أن يتركوه بمفرده، إلا أنه أصر وطلب منهم أن يحتموا بالمدرعة من النيران الكثيفة، وظل «أحمد» مع اثنين من جنوده يقومون بحماية ظهر بقية الجنود لحين عودتهم بالدعم والذخيرة، وفى لحظة اخترقت رصاصة من أحد قناصة الجماعات الإرهابية إلى رقبة أحمد، ليلفظ أنفاسه الأخيرة، وتصعد روحه إلى بارئها فى ١٤ رمضان.
الشهيد شريف عمر
ولاستشهاد المقاتل الشهيد شريف محمد عمر تفاصيل سيبقى ذكرها للأبد، والده الذى يرفض التحدث عن ابنه، حاول أن يظهر متماسكا وهو يروى لـ«المصرى اليوم» لحظة وداع جثمان ابنه فى الجنازة العسكرية التى شارك فيها اﻵلاف والذى اكتفى بالقول: «إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا لفراقك يا شريف لمحزونون».
وقالت والدة الشهيد: «ابنى بطل وشرفنا كلنا، وهو ليس استثناء بين أقرانه من أبناء الجيش، الذى هو فى رباط إلى يوم الدين»، متابعة: «فى يوم ١٦ مارس من العام الماضى، وفى الساعة ٩.٢٠ صباحا، اخترقت شظية الغدر قلبى قبل قلب فلذة كبدى شريف، بعد أن شارك فى مداهمة منزل ملغم ليحمى بلده، ويفتدى أصدقاءه بعمره، وهنيئًا لابنى الجنة والشهادة».
«لسة فاكرة زى دلوقتى يوم ١٥ مارس، كان آخر كلام بينى وبينك يا شريف، كان آخر مرة أسمع صوتك، وقولتلى إنك هتبقى الصبح شهيد صح ياحبيبى؟، ربنا استجاب لطلبك وبقيت شهيد، وبقيت أنا أم الشهيد، حرقت قلبى عليك يا بنى، معقول سنة من غير ما أسمع صوتك، يا رب الصبر من عندك على فراق ابنى يا رب تقرب أيامى ليه وأبقى جنبه»، وفى نفس اليوم فضلت أردد مع نفسى: «أنا دلوقتى فى انتظار أجمل خبر»، خبر استشهادك يا بطل.
وتابعت أن الشهيد اتصل بها قبل استشهاده، وطلب منها الدعاء له، قائلة: « يا رب أشوفك فى أعلى عليين وفى السماء العلا، ما كنتش أعرف إن ربنا هايتقبل منى وتبقى عريس الجنة»، لافتة إلى أن الشهيد متزوج ولديه ابنتان. مختتمة كلامها بالقول: «إن أصعب لحظات حياتها عندما تشاهد نجلة الشهيد فريدة وهى تتحدث إلى صورة والدها»، ووجهت أم الشهيد رسالة لنجلها الراحل المقدم شريف محمد عمر قائلة: «الله يرحمك وانت شهيد، وانت متغلاش على مصر ووطنك، وأنا بشكرك لإنك منحتنى لقب (أم الشهيد)».
وفي النهاية لا يسعنا إلا الاعتذار لأرواح وأسر الشهداء الذين لم يتسع المجال لذكرهم والذين لو أتيحت لنا الفرصة لقصصنا بطولة كل شهيد منهم لتكون عبرة وعظة ودرسًا في الوطنية للأجيال القادمة يستلهمون منها عقيدة الفداء والبطولة للدفاع عن وطنهم ضد أي عدو .. وعاشت مصر حرة بشعبها المرابط على حبها إلى أبد الدهر.