انتابتني دهشة كبيرة وأنا أتابع تحرك أمريكا المفاجئ، في إبريل الحالي ، من أجل تدشين المرحلة الثانية للحوار الأمريكي السوداني بعد أن أثمرت المرحلة الأولى للحوار عن رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على السودان منذ أكثر من 20 عاما .
و يرجع سبب دهشتي إلى سببين رئيسيين، أولهما : إختيار أمريكا لهذا التوقيت بالذات للإعلان عن بدء التحرك لإطلاق المرحلة الثانية من الحوار مع السودان ، و السبب الثاني هو ربط أمريكا بين إنطلاق المرحلة الثانية ، و موقف السودان من ملف سد النهضة الإثيوبي ، خاصة بعد النتائج الإيجابية لزيارة الرئيس عمر البشير لمصر ، في مارس الماضي .
فإذا تحدثنا عن الشق الأول، و هو توقيت التحرك الأمريكي ، سيظهر لنا بوضوح أن هذا التحرك تزامن في نفس يوم إنطلاق جولة المفاوضات حول سد النهضة التي جرت في الخرطوم ، عاصمة السودان، يوم 5 إبريل ، من الشهر الحالي بحضور وزراء خارجية مصر ، و السودان ، و إثيوبيا إلى جانب رؤساء أجهزة الإستخبارات، و وزراء الري في الدول الثلاث .
و بتحليل سريع لتزامن التحرك الأمريكي تجاه السودان وبدء الجولة الجديدة لمفاوضات سد النهضة، لن نجد إلا هدفا واحدا من وراء هذا التحرك، و هو أن واشنطن تعمل بقوة على التأثير على الموقف السوداني، لكي يميل من جديد لصالح الجانب الإثيوبي، بعد أن إتجه الموقف السوداني لصالح مصر ، كنتيجة مباشرة للزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس السوداني ، عمر حسن البشير، لمصر في 20 مارس الماضي ، بعد فترة فتور في العلاقات المصرية السودانية ، بزعم تدعيم مصر للحركات المتمردة في إقليم دارفور السوداني .
و كشفت صحيفة "الإنتباهة" السودانية ، عن أن وزير الخارجية السوداني ، إبراهيم غندور ، تلقى إتصالا من وزير الخارجية الأمريكي بالإنابة ، جون سوليفان ، بخصوص الإعداد للمرحلة الثانية من الحوار الأمريكي السوداني ، مشيرة إلى أن الإتصال أولى إهتماما كبيرا بملف سد النهضة الإثيوبي .
و كانت المفاوضات الثلاثية بين مصر ، و السودان ، و إثيوبيا قد توقفت لمدة أربعة أشهر، بسبب تحفظات كلا من إثيوبيا د السودان على التقرير المبدئي للمكتب الإستشاري الفرنسي المكلف بتقييم الأضرار الإقتصادية ، و الهيدروليجية ، و البيئية ، لسد النهضة على دولتي المصب ، مصر و السودان، لا سيما الضرر المحتمل على حصة مصر التاريخية من مياه النيل ، و البالغ قدرها 5ر55 مليار متر مكعب .
و لو بادرنا بدراسة ما كشفت عنه صحيفة الإنتباهة السودانية ، سنجد أن إهتمام أمريكا بتناول مشكلة سد النهضة مع السودان ، يعكس سياسة أمريكا الرامية للتأثير على حصة مصر من مياه النيل ، و هي سياسة قديمة هددت بها أمريكا الرئيس الراحل ، جمال عبد الناصر، إنتقاما من قراره ببناء السد العالي بالتعاون مع الإتحاد السوفيتي، العدو اللدود للولايات المتحدة في ذلك الوقت .
كما أن نفس التهديد ببناء السد جاء بإيعاز من إسرائيل في 1979 ، غير أن الرئيس الراحل أنور السادات، هدد بضرب السد الإثيوبي ما دفع إثيوبيا عن التراجع عن بنائه . و لم تتمكن إثيوبيا من بناء السد إلا في فترة حكم الرئيس الإخواني ، محمد مرسي ، فقامت في 2013 ، بتحويل نهر النيل للمرة الأولى عن مجراه التاريخي لبناء جسم السد الذي يمكن أن ينزل الضرر بحصة مصر المائية ، على الأقل، خلال مرحلة ملء خزان السد البالغ سعته 74 مليار متر مكعب و خلال ضعف الفيضان .
و إذا كان المخطط الصهيوني الأمريكي ، الخاص بدول الشرق الأوسط ، يدرك أنه من المستحيل تفتيت مصر إلى دويلات، كما حدث في العراق ، و سوريا ، والسودان، نظرا لقوة الجيش المصري ووطنية المصريين ، إلا أنه يدرك أيضا أن إضعاف القدرات الإقتصادية لمصر يعد السلاح البديل لتنفيذ مخطط " الفوضى الخلاقة" التي تستهدف زعزعزة إستقرار الدول العاصية على التقسيم و التفتيت .
و يكفي هنا للكشف عن أهمية الإغراءات، التي تقدمها الولايات المتحدة للسودان و للرئيس عمر البشير شخصيا، في إطار المرحلة الثانية للحوار الأمريكي السوداني ، لكي ندرك مدى قوة الضعوط الأمريكية للتأثير على موقف السودان حيال مفاوضات سد النهضة الإثيوبي . و تجدر الإشارة ، إلى أن المرحلة الأولى من الحوار ، أسفرت في أكتوبر 2017 ، عن قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب ، عن رفع العقوبات الإقتصادية التي فرضتها أمريكا على السودان منذ 1997 ، بسبب دعمها للإرهاب ، ما سبب خسائر للإقتصاد السوداني قدرتها الحكومات السودانية المتعاقبة بنحو 500 مليار دولار .
و تقدم أمريكا في المرحلة الثانية للحوار مع السودان إغراءات أكثر جاذبية من إغراءات المرحلة الأولى ، فهي تتعلق برفع إسم السودان من على قائمة الدول الراعية للإرهاب، و هو الإتهام الذي وجه للسودان منذ أن فتح السودان أراضيه في التسعينات من القرن الماضي لإيواء ،أسامة بن لادن ، زعيم تنظيم القاعدة ، خلال سيطرة الإخوان المسلمين ، بزعامة حسن الترابي، على سياسة السودان داخليا و خارجيا .و يعني رفع إسم السودان عن الدول الراعية للإرهاب إسقاط الإتهام الذي وجهته المحكمة الجنائية الدولية للرئيس عمر البشير ، بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية ، و الإبادة الجماعية ، لأبناء إقليم دارفور، الواقع غرب السودان، و الذي تقدر مساحته بما يقرب من 400 ألف كيلو متر مربع( أقل قليلا من نصف مساحة مصر ) و يمتلك ثروات من البترول ، و الذهب ، و اليورانيوم، فضلا عن الثروة الزراعية، و الحيوانية الكبيرة .
المعروف أن مخطط تقسيم السودان، لا يكتفي بتقسيمه إلى دولتين ، كما حدث في 2011 ، بإنفصال جنوب السودان عن السودان ( جنوب السودان مساحته 500 ألف كيلو متر تقريبا ) و لكنه يشمل أيضا ، فصل إقليم دارفور، في إطار مخطط تقسيم الدول العربية إلى دويلات على أسس دينية ، و عرقية، و قبائلية .
و كانت المحكمة الجنائية الدولية ، أصدرت مذكرتي إعتقال بحق البشير في عامي 2009 و 2010 ، و يعني ذلك ، إجبار أي دولة يزورها البشير، على المبادرة بإعتقاله فور وصوله لأراضيها و تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية ، و إلا تعرضت لعقوبات دولية . يذكر أن مصر كانت أول دولة يزورها البشير بعد صدور مذكرة التوقيف الدولية بحقه في 2009 ، لكن أحدا لم يستطع إجبار مصر على تسليم البشير ، لعدم إنضمام مصر إلى عضوية المحكمة الجنائية الدولية .
و لكن هل ستقف الإغراءات الأمريكية في إطار المرحلة الثانية من الحوار الأمريكي السوداني عند رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب؟ ... بالقطع لا ، فهي تشمل أيضا العمل على إسقاط ديون السودان الخارجية التي تقترب من 50 مليار دولار ، فضلا عن وعود بتدفق الإستثمارات الأمريكية و الأوروبية على السودان ، الذي يعاني من مشاكل إقتصادية خانقة أدت مؤخرا إلى تراجع سعر الجنيه السوداني ليصل إلى 30 جنيه في مارس 2018 مقابل 18 جنيها فقط في يناير 2018 .
و لكن هل يخضع السودان للتهديد و الترغيب من جانب أمريكا فقط ، أم أن لإثيوبيا ، جار السودان المباشر، دور في دفع السودان للإنحياز للجانب الإثيوبي في قضية سد النهضة ؟ الإجابة هي أن إثيوبيا تمكنت من إقناع السودان بأن من مصلحته دعم موقفها من سد النهضة نظرا لإحتياج السودان للكهرباء ، لكن هذا يحتاج لمقال آخر ، خاصة و أن إسرائيل هي التي تقف وراء هذا الملف .
و لا يمكن مع ذلك ، أن أختم هذا المقال، من دون الإشارة إلى أنه لولا سيطرة الإخواني ، حسن الترابي، على تسيير شئون السودان، ما طالب أبناء جنوب السودان بالإنفصال عن السودان . فقد أصر الترابي على تطبيق الشريعة الإسلامية على الجنوب المسيحي ما أدى لإنفصال الجنوب في إستفتاء شعبي جرى في 2011 . و بالمثل لولا شعور إثيوبيا بضعف مصر و جيشها عقب ثورة 25 يناير 2011 و سقوط مصر في براثن حكم الإخوان المسلمين ، ما تجرأت إثيوبيا على بناء سد النهضة الذي ورثه الرئيس عبد الفتاح السيسي .