في الحقيقة يهتز قلمي وأنا أكتب هذا المقال، ولا أعرف من أين أبدأ، وكيف أطرح على حضراتكم هذا الموضوع الهام، فهذا أول مقال أَحْتَار في بدايته ربما لأن الموضوع يرتبط بالدين والموسيقى، وهذا الموضوع يُعد من الموضوعات الشائكة التي يجب علينا أن نتحفظ كثيرا قبل الخوض فيها، لذلك أرجو الله (عز وجل) أن يوفقني في صياغة أفكاري وأن تصلكم دون خلط للمفاهيم.
سأبدأ القصة من أولها، من عند "أحمد" ذلك الطفل ذو الأعوام التسعة الذي يأتي إلىَّ يوم الأحد من كل أسبوع في تمام السابعة مساءً ليأخذ درس العزف على (آلة البيانو)، يأتي وهو ممسكا بكتاب المدونات الموسيقية التي يدرسها معي وعيناه تلمعان ببريق لا أجده إلا في عيون العاشقين، نَعَمْ فهو يعشق العزف وينتظر لقائي كل أسبوع بشوقٍ عَارِمْ، لا يحسه إلا الفنان الصادق.
"أحمد" يأتي إليَّ مع والدته عادة، ولكن يوم الأحد الماضي في تمام السابعة والنصف مساءً جاء "أحمد" متأخرًا بصُحبة (جَدِّهِ)، حيث كانت والدته مريضة في هذا اليوم، وكان هذا هو اللقاء الأول لي مع (الجَدِ) ذلك الشيخ الكبير الذي يتسم بالوقار والهيبة والاحترام، وقد صافحني وعَرَّفَنِي بنفسه قائلًا (أنا جَدُّ أحمد)، ولكنني رأيت علامات الاستياء ترتسم على وَجْهِهِ ولا أعلم لماذا.
جلس "أحمد" على المقعد المستدير أمام البيانو وهو يردد عبارات متتالية سريعة ولا يدع لي مجالا للرد عليه حيث قال: (أنا حفظت اللي فات كله يا دكتور، عاوز آخد (حِتَّه) كمان، عاوز حِتَّه كبيرة، عاوز أخلص الأغنية كلها النهارده، عاوز أعزف الأغنية كاملة بكرة فـ الطابور، يللا بقى أنا جاهز ... يللا... يللا بقى)، ابتسمت وقلت له حاضر حاضر بس اعزف الجزء السابق أولًا، وفعلًا عزف "أحمد" كل ما سبق دراسته بثقة ومهارة، فصفقت له قائلًا برافو عليك هايل، وهنا انتبهت إلى أن "الجَدَ" لم يُصَفِّق ولم يحرك ساكنًا، ولكني لم ألتفت إليه.
وزاد سعادتي إحساس الفرحة الشديد الذي تملَّك أحمد وشعوره بالفخر والاعتزاز بنفسه ومايملك من موهبة تميزه عن أقرانه، فهو فعلا يزيد عنهم بالموهبة ويشعر أن ما يمتلكه من رصيد يتمثل في مجموعة أغنيات يحفظها ويجيد عزفها يجعله أكثر قوة وتميزًا عن زملائه،وبالفعل قررت تدريس الأغنية بالكامل لأحمد في هذا اليوم حتى تكتمل فرحته.
وبعد مُضي نصف ساعة تقريبًا من زمن الدرس الذي امتلأ بعبارات الثناء مني على أداء "أحمد" وعزفه المُتقن، فُوجِئْتُ "بالجَدِ" يقول لي (عَلِّمْهُم القُرآن أَحْسَن يا دكتور).
حينئذ انتابني الصمت لِلَحَظَات وقلت للجَدِ (طبعًا القرآن أحسن)، ولكن أودُ لفت نظرك أيها الشيخ الجليل أن القرآن والإنجيل والتوراة وسائر الكًتب السماوية هي من وضع الله (عز وجل) ولا يجوز بأي حالِ من الأحوال مقارنتها بعلمٍ وضعه الإنسان حتى تقول لي أن تَعَلُمَ القرآن أحسن من تَعَلُمَ الموسيقى، هذا لا يجوز أصلًا، إن الموسيقى والرسم والنحت وسائر الفنون لا تقل أهمية عن سائر العلوم مثل الحساب والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها من علوم الدنيا، بل أن الفنون تزيد عن هذه العلوم بأنها تخاطب الوجدان فتهذب النفس وترقى بالذوق، فهل تقصد الاكتفاء بتعَلُمِ القرآن وترك باقي العلوم؟! هل أمرنا الله بذلك ؟!
إن شخصية الفرد تتكون من عدة جوانب تتكامل فيما بينها لِتُعطِي الشخصية المتوازنة، الجوانب الجُسمانية والتي يجب تنميتها من خلال ممارسة الرياضة، والجوانب العقلية المعرفية والتي تنمو لدى الطفل في مراحل دراسته من خلال تدرج معارفه لسائر العلوم، والجوانب الوجدانية الانفعالية والتي قد يُهْمِلُها البعض خطأً، وهي تنمو من خلال ممارسة مختلف الفنون، كل ذلك يُغَلِفُه إطار أخلاقي مَنْبَعُهُ (الكُتُب السماوية) التي نتعلم منها العَقِيدَةُ السليمة والعبادات والقيم الأخلاقية والمعاملات كما أمرنا بها الله (عز وجل).
ولا أخفيكم سرًا لم أدع فرصة "للجَدِ" للرد عليِّ، حيث أنني انشغلت بما هو أهم من الحوار معه، انشغلت بالتدريس لأحمد حيث أنني وَعَدْتُه بإنهاء الأغنية في درس اليوم، وبالفعل أتممت له الأغنية، وحفظها عن ظهر قلب، وعزفها في اليوم التالي في الطابور المدرسي، ليسعد "أحمد" بما يمتلكه من موهبة هي في الأصل إحدى عطايا الله (عز وجل)...... دُمتم بخير وفن.