قدم الرئيس عبد الفتاح السيسي كشف حساب للمصريين، خلال مؤتمر "حكاية شعب" تضمن الإنجازات المتعددة التي حققها خلال فترة رئاسته الأولى التي لم تزد عن أربع سنوات.
لكن ما تحقق على يدي الرئيس السيسي كان من الممكن تصنيفه بالإنجازات، كما وصفها الرئيس السيسي نفسه، لو كانت قد رأت النور في ظل الظروف الطبيعية والعادية التي تمر بها عادة الدول التي تسعى لتحقيق التنمية والتقدم، لكن عندما تتحقق هذه الإنجازات الهائلة، خلال هذه المدة الزمنية القصيرة، وفي خضم هذا الكم الهائل من التحديات الداخلية والخارجية، بما فيها ما يحاك من مؤامرات لتدمير الدول العربية وتفتيتها إلى دويلات على أسس دينية وعرقية ومذهبية وعشائرية، فإن ما تحقق من إنجازات عملاقة على أرض مصر في الفترة من 2014 إلى 2018 يستحق أن يوصف بالإعجاز وليس فقط بالإنجاز.
ولكي نثبت كيف أن الرئيس السيسي قد ظلم نفسه، ولم يعطها حق قدرها، خلال حكاية شعب باكتفائه بتوصيف ما قام به بالإنجاز وليس بالإعجاز، علينا أولا إعادة التذكير بالتحديات الجسام التي واجهها الرئيس السيسي على المستويين الداخلي والخارجي فور تكليف الشعب المصري له بإنقاذ الدولة المصرية من الانهيار بمقتضى ثورة 30 يونيو 2013.
فقد تولى الرئيس السيسي حكم مصر في ظروف هي الأسوأ منذ ثورة يوليو 1952، فعلى المستوى الداخلي، استبيحت حرمة الشارع المصري، فأصبحت مصر مرتعا للبلطجة، وتجارة المخدرات، وتحولت الكباري والميادين الرئيسية إلى مقاهي، وغرز، وخيم للدعارة، وأغلقت الشوارع الرئيسية بالباعة الجائلين، وتزايدت المطالب الفئوية، وانتشر عدم الأمن والأمان، وعمت الفوضى وأصبحت السرقات والسطو المسلح على الممتلكات والمتاجر شيئا عاديا ويوميا، وسقطت هيبة الدولة ليصبح الجميع خائفا على سلامة بيته وأولاده وسيارته وشركته ومتجره ومصدر رزقه.
وتزامن مع زوال الأمن والاستقرار، تدهور البنية التحتية، وانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة بسبب نقص الوقود، وتدهورت حالة محطات توليد الكهرباء نتيجة للإهمال الذي عانت منه طوال السنوات الأخيرة لحكم حسني مبارك ونتيجة ضعف حكم الإخوان المتأسلمين، فراجت تجارة المولدات الكهربائية لدرجة أن كثيرا من المحلات التجارية بادرت بتغيير نشاطها لبيع هذه المولدات والكشافات الليد سريعة الشحن لمواجهة الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي.
كما أدى تراجع رصيد مصر من العملة الصعبة إلى نقص الوقود، فوقف المصريون أمام محطات البنزين لساعات طويلة لملء خزانات سياراتهم بالوقود، كما أسفر نقص الوقود والغاز عن توقف عجلة الإنتاج في كثير من المصانع، وتزايد الاعتماد على الاستيراد من الخارج الذي التهم قدرا هائلا من احتياطي العملة الصعبة، وعانت معظم الأنشطة الصناعية والزراعية والتجارية والخدمية من تراجع رهيب أدى إلى توقف شبه تام للاستثمار المحلي، وتوقف تام للاستثمار الأجنبي، ما أوقف عملية التنمية لتتراجع معدلات النمو الاقتصادي بشكل كبير، فيما خسرت البورصة المصرية أكثر من 81 مليار جنيه.
وتزامن مع ذلك كله توقف شبه كامل لحركة السياحة في أعقاب ثورة 25 يناير وهي المصدر الرئيسي للدخل القومي من العملات الصعبة، ليفقد الاقتصاد المصري ما يقرب من 100 مليار دولار خلال السنوات الست التي أعقبت الثورة، كما تزامن مع ذلك، تراجع تحويلات المصريين بالخارج سواء بسبب عودة المصريين من ليبيا بعد سقوطها في براثن الإرهاب، أو خشية مزيد من عدم الاستقرار، ليتراجع احتياطي مصر من العملات الصعبة إلى 16 مليار دولار فقط مقابل 34 مليار دولار في 2010.
وقد أدى كل ذلك إلى تردي حالة الحالة الاقتصادية ليسجل الاقتصاد المصري أكبر عجز في الموازنة منذ نحو 40 عاما بلغ 7ر16 في المائة.
وعلى المستوى الخارجي، حقق مخطط تقسيم الدول العربية إلى دويلات متحاربة وتشجيع الجماعات الإرهابية على السيطرة على ثروات هذه الدول نجاحا باهرا، فسقطت ليبيا فريسة هذه الفوضى، لتعاني مصر من حدود مشتركة مع ليبيا بلا رقيب يزيد طولها على 1200 كيلو متر مربع، فنشطت في هذه المنطقة الحدودية تجارة تهريب السلاح والمخدرات، وحدث تزاوج للمصالح بين الجماعات الارهابية المتأسلمة في كلا البلدين وبين تجار السلاح وتجار المخدرات، فأصبحت الأنشطة غير المشروعة على الحدود المصرية الليبية مصدرا هائلا للمكاسب المادية للخارجين عن القانون سواء لصالح المهربين وتجار المخدرات والسلاح أو لصالح الجماعات الإسلامية التي تمكنت من تدعيم نفسها بجانب مهم من نحو 30 مليون قطعة سلاح خرجت عن سيطرة الجيش الليبي بعد انهياره في أعقاب سقوط الرئيس الليبي معمر القذافي.
وعلى الحدود مع غزة استغلت جماعة "حماس" الفراغ الأمني الذي شهدته مصر فراجت أيضا عمليات التهريب من سلاح ومخدرات، فضلا عن تسهيل مرور المسروقات المنهوبة من ممتلكات المصريين إلى غزة لا سيما من السيارات التي كان يتم ترخيصها في مرور غزة بشكل شرعي فور تهريبها عبر المعابر أو عبر الأنفاق، ومن جانبها، واصلت إسرائيل سياسة تهريب السلاح وتدعيم الإرهابيين بتزويدهم بالسلاح عبر سيناء تمهيدا لتشجيع إقامة دولة "ولاية في سيناء" لتكون بديلا لفلسطينيي الأراضي المحتلة والقدس للتخلص من الثقل الديمغرافي الفلسطيني الذي يهدد يهودية الدولة الإسرائيلية.
كما واصلت الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة باراك أوباما سياسة نشر الفوضى الخلاقة في المنطقة وتفتيت الدول العربية من خلال تشجيع التيارات الإسلامية في مصر والعالم العربي بوصفها السبيل الوحيد لتدمير هذه الدول نظرا لإفتقار هذه الجماعات لمفهوم الدولة الوطنية وإدراكا من أمريكا لحدة الخلافات والتطاحن والتصارع بين هذه التيارات الإسلامية للسيطرة على السلطة والثروة دون الحاجة لتدخلات عسكرية تكبد القوات الأمريكية خسائر فادحة في الأرواح والأموال.
وقد نجحت بالفعل تجربة هذه السياسة من قبل في العراق فسقطت دولة العراق وتفتت إلى ثلاث دويلات إسلامية لكنها ذات مذاهب وأعراق مختلفة واحدة شيعية وأخرى سنية وثالثة كردية والجميع يدين بالإسلام، كما نجحت أيضا هذه السياسة في إسقاط ليبيا وإهدار ثرواتها باستيلاء الجماعات الإرهابية على الثروات البترولية الليبية الهائلة فقامت كل جماعة سواء كانت ذات خلفية إسلامية أو إجرامية بالسيطرة على بئر بترول وبيعه بأبخس الأثمان للشركات العالمية التي تهيمن عليها الصهيونية العالمية، وما حدث في ليبيا والعراق تكرر أيضا في سوريا واليمن.
وامتد هذا المخطط التدميري إلى مصر، فتم تمهيد الأرض لسيطرة الجماعات الإسلامية على مصير المصريين، فظهرت أول مساوئ تمكين جماعة الإخوان المسلمين من حكم الدولة المصرية باستغلال التنظيمات الإرهابية لترهل الدولة المصرية ليستغل تنظيم القاعدة وجماعة ولاية سيناء وداعش وغيرها من الجماعات الإسلامية الإرهابية غياب وضعف مؤسسات الدولة المصرية للبدء في تنفيذ مخططها بالانفراد بحكم جزء من أرض مصر.
وقد كانت منطقة شمال سيناء، لا سيما العريش، شاهدا على هذه المهزلة، فبدأت الجماعات الإرهابية في رفع علمها على سيارات نصف نقل أو عربات دفع رباعي بعد تسليحها بمدافع وصواريخ محمولة، فضلا عما يحمله شاغلو هذه السيارات من أسلحة وذخائر.
وهنا استغلت إثيوبيا ضعف الدولة المصرية في أعقاب ثورة يناير لتعلن عن بدء إنشاء سد النهضة في أبريل 2011، ولم تبدأ الأعمال التنفيذية لبناء السد إلا خلال فترة حكم الرئيس الإخواني، محمد مرسي، وذلك عندما شعرت أديس أبابا بزوال هيبة الدولة المصرية خلال حكم الإخوان، وبلغت قمة استخفاف إثيوبيا بمرسي، باتخاذ خطوة في غاية الخطورة، بتحويل مجرى نهر النيل لبناء جسم السد في مايو 2013، ليتم للمرة الأولى منذ فجر التاريخ، تحويل مجرى نهر النيل عن مساره الطبيعي، وتصبح مصر مهددة بالفقر المائي، في وقت تعتمد بنسبة 95 في المائة في مصادرها المائية على مياه نهر النيل، وقد بلغ تعمد إثيوبيا في إظهار استخفافها بالرئيس الإخواني مرسي إلى حد تحويل مجرى النيل عن مجراه بعد مرور 24 ساعة فقط على مشاركة مرسي في القمة الأفريقية التي عقدت في إثيوبيا.
ووسط كل هذه التحديات والمؤامرات الداخلية والخارجية، هب الشعب المصري في 30 يونيو 2013 مطالبا الرئيس السيسي بالقيام بمسئولياته التارخية بالحفاظ على الدولة المصرية بوصفه قائدا للجيش المصري العظيم.
وهنا كانت مطالب المصريين للرئيس السيسي واضحة ومحددة في ثلاث مطالب رئيسية وليس أكثر من ذلك، آملين أن ينجح في تنفيذها خلال فترة رئاسته وهي أولا: إعادة الأمن والأمان للشارع المصري واستعادة هيبة الدولة ومؤسساتها، وثانيا: توفير الطاقة من كهرباء ووقود، ثم أخيرا إحباط مخطط تقسيم الدولة إلى دويلات متصارعة للحيلولة دون تحويل شعبها إلى شعب لاجئ كما حدث في سوريا وليبيا.
ورغم تشكك كثير من المصريين في إمكانية نجاح السيسي في تحقيق هذه المطالب الثلاثة لصعوبة إنجازها في ظل الظروف الاستثنائية التي تولى فيها السيسي حكم مصر، إلا أن الرئيس السيس فاجأ المصريين بعدم الاكتفاء بتنفيذ هذه المطالب على أكمل وجه بل بادر بتنفيذ رؤية شاملة للمستقبل من خلال تنفيذ إصلاحات اقتصادية جذرية مصحوبة بتدشين مسيرة تنمية غير مسبوقة في جميع أنحاء البلاد، وارتكزت هذه المسيرة على تحديث الاقتصاد المصري، بتحويله من اقتصاد ريعي خدمي، إلى اقتصاد صناعي زراعي تكنولوجي، ويأتي ازدواج قناة السويس وتحويلها لمنطقة اقتصادية حرة على رأس هذه المشروعات القومية العملاقة، خاصة أن المصريين اكتفوا منذ افتتاحها في 1869، بالتعامل معها بنظام "الكمسري"، الذي يقطع تذكرة العبور للسفن التي تمر دون الاستفادة من موقعها الإستراتيجي العبقري سواء في المجال اللوجيستي أو بناء السفن أو التموين أو التصنيع أو التصدير للأسواق الخارجية.
كما جاءت الصناعة على رأس مشروع السيسي التنموي، خاصة الصناعات التي تفوق فيها المصريون منذ عهد محمد علي، لكنهم للأسف لم يواكبوا التقدم التكنولوجي العالمي الهائل الذي طرأ عليها، خاصة في مجالات صناعة الجلود والأثاث والنسيج فأنشأ مدينتي الروبيكي للجلود ودمياط للأثاث ليخرج منهما منتجات عالية الجودة ترضي جميع الأذواق وتلبي احتياجات الأسواق المحلية والعالمية.
و في نفس الوقت بدأت مصر تستعيد سمعتها العالمية كدولة زراعية من الطراز الأول فانطلقت مسيرة استصلاح واستزراع المليون ونصف المليون فدان، فضلا عن عشرات الآلاف من الفدادين من الصوب الزراعية والمزارع السمكية.
وقد سلح الرئيس السيسي هذه المشروعات العملاقة بنية تحتية هائلة، فأقام شبكة طرق على أحدث طراز، مدعمة بكباري حديثة، ومجموعة موانئ للتصدير، فضلا عن مجموعة من الأنفاق تحت القناة لربط مصر بسيناء لتعمير سيناء في إطار مكافحة الإرهاب وإعادة توزيع أكثر من 100 مليون مصري يكتظ بهم وادي النيل والدلتا بهدف إحباط أي مخطط لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو أي محاولة من جانب إسرائيل لإعادة احتلالها.
وكثيرا ما حلم المصريون، منذ ستينات القرن الماضي، بعاصمة جديدة تخفف الحمل عن القاهرة، خاصة أن خبراء المرور العالميين اتفقوا بعد دراسات مستفيضة على أن الحل الوحيد لمشكلة المرور في القاهرة هي التعايش معها لاستحالة حلها، فقام السيسي بالبدء الفعلي في إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، في موقع عبقري، بهدف تخفيف التكدس السكاني والازدحام المروري عن القاهرة، فضلا عن جذب الاستثمارات والمساهمة في التصدير لقربها من محور قناة السويس.
وفي النهاية اختتم هذا المقال بالقول إنه إذا كان الرئيس السيسي تمكن من تلبية مطالب المصريين الثلاثة، خلال فترة رئاسته الأولى، وهي "الأمن" و"الطاقة" و"حماية الدولة من الانهيار"، فعندئذ كان من الممكن توصيف ما تم بالإنجاز لكن عندما يتم إطلاق منظمومة تنموية متكاملة صناعية زراعية تكنولوجية إلى جانب تنفيذ هذه المطالب الثلاثة الأساسية فإن ما تحقق يستحق وصف إعجاز وليس فقط وصف إنجا