في نظرة مستقبلية أدركت خطورة الموقف على المنطقة العربية، فلم تتوقع الولايات المتحدة ما فعلته مصر في الأمم المتحدة إزاء قرار رفض مشروع تهويد القدس والذي صار خلفها الحلفاء من الدول العربية والأجنبية، كالصفعة التي لطمت وجه حليف إسرائيل الأكبر وجناجها العسكري، وعليه تم نشر إحدى المقالات بالصحيفة الأمريكية نيويورك تايمز، والتي تناولت الحديث عن مصر بأنها لا تعد حليفًا جيدًا للولايات المتحدة بل حليفًا سيء، لاعتبارات عديدة أخري تتعلق بأمور أيدتها وصارت فيها مصر لم تكن علي هواء امريكا، وخلال استعراض دور مصر في دعم القضية الفلسطينية خلال أكثر من نصف قرن، وارتباط مصر بفلسطين تمليه اعتبارات الأمن القومي المصري وروابط جغرافية وتاريخية وقومية.
لذلك لم تكن قضية القدس بالشيء الهين فقد كانت مصر أساسيا في الأحداث التي سبقت حرب 1984، ثم في الحرب ذاتها التي كانت مصر في مقدمة الشعوب العربية، ثم كانت هزيمة فلسطين أحد أسباب قيام ثورة 23 يوليو 1952، فكانت قضية فلسطين أحد اهتمامات الضباط الأحرار، ومن ثم توجه الجهد السياسي والدبلوماسي المصري الي مساندة القضية الفلسطينية، فساعدت مصر في إجلاء القيادة الفلسطينية عقب محنتها في لبنان، وفي الاتفاق الأردني الفلسطيني، وفي إعلان مصر لوقف العمليات الخارجية، وفي الانتفاضة الأولى، وإعلان الدولة الفلسطينية عام 1988.
وتأييدها للعديد من الاتفاقيات وعلى رأسها اسلو التي ارتضاها الفلسطينيون 1993، والانتفاضة الثانية ثم مفاوضات طابا، ولم يقتصر دور مصر على الاشتراك في المناقشات الخاصة بالقضية الفلسطينية فقط، بل بادرت بإدانة وتحذير إسرائيل بالقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، فمصر التي قدمت للقضية الفلسطينية 100 ألف شهيد، وأكثر من ضعفهم من المصابين والجرحى على مدار تاريخ القضية، لن تتهاون يوم في حق القضية الفلسطينية بل كانت ومازالت أول من وقف في وجه امريكا واسرائيل لتكشف عن أنيابها ولا تهاب أحد، واستطاعت ان تعيد موازين القوي العامة في المنطقة الي نصابها الصحيح .
فبعد سقوط نظام القذافي باتت مسألة ضبط الحدود الليبية الشغل الشاغل للجيش المصري لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي المصري، وفي ظل حالة الفوضى والانفلات الأمني والإرهاب في الأراضي الليبية، ودعم موقف حفتر من خلال للقضاء علي الإرهاب أو حتى شل حركتها على الأقل، السبب في أن تصبح مصر للحليف السئ لأن ذلك ضد مصالح الولايات المتحدة، وبسبب القرب الجغرافي والأمن القومي المصري بتزويد الإرهابيين في مصر بالأسلحة عن طريق التهريب على طول الشريط الحدودي بين مصر وليبيا، ويصل الأمر إلى اتهام مصر لتلك الجماعات بتشكيل ما يعرف بالجيش المصري الحر داخل الأراضي الليبية، وأن كان لم يكن هناك ما يثبت ذلك وما لا تعلنه الحكومة المصرية.
ولأنها أعطت روسيا إمتيازات العبور اولا للسفن الحربية والتجارية الروسية عبر قناة السويس من و إلى البحر الأبيض المتوسط، ووقعت إتفاقية بشأن الاستخدام المتبادل للأجواء والمطارات، بما في ذلك القواعد الجوية للبلدين، فمصر ماضية بكل قوة وإصرار وبأهداف واضحة وخطوات محسوبة ومتعاقبة في تحديث ترسانتها العسكرية بصفقات هي اﻷكبر في تاريخ جيشها، الأقوى عربيا، والعاشر عالميا، مستهدفة إعلان توازنات جديدة للقوى في الشرق الأوسط الملتهب من كل جانب.
ولعل أبرز وأقوى تلك الصفقات التي أجراها الجيش المصري هي التي عقدت مع روسيا ووقع عليها فعليا وشملت أسلحة تدعم كلا من الدفاع الجوي والقوات الجوية والقوات البحرية، فضلا عن القوات البرية، ومن أبرز تلك الصفقات اتفاقية لاستيراد أسلحة روسية بقيمة 3.5 مليار دولار، فأصبحت الشراكة الإستراتيجية بين مصر وروسيا بشكل عام قوية خاصة بعد استراتيجيات مكافحة الإرهاب،
وتطوير المعدات العسكرية للقوات المسلحة المصرية وخاصة في مجال الطيران واستخدام الأجواء المصرية من قبل المقاتلات الروسية، وتدريبات مشتركة بين قوات المظلات المصرية والروسية، وتعزيز العلاقات العسكرية بين الدولتين، فقد اصبحت مصر حليف سئ لامريكا، لأنها اختارت روسيا كحليف عسكري لها في المنطقة بما يضر بمصالح الولايات المتحدة وخاصة بعد توقيع الطرفان إتفاق بدء العمل في مشروع محطة كهرباء الضبعة النووية بمصر وتزويدها بالوقود النووي، وقد اصبحت مصر الشريك القديم والموثوق فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو ما يستفز الإدارة الأميركية التي لطالما اعتبرت أن أي تقارب مصري روسي موجه ضدها بالأساس.
فالصفقات المصرية مع روسيا في إطار من الود والتقارب والدعم والتوافق السياسي المقلق لأمريكا وإسرائيل التي تترقب عدوها التقليدي ، مصر، صاحبة أكبر جيش مناوئ لها في الشرق الأوسط، والمقلق لأمريكا ﻻستشعارها بأن حليفها الاستراتيجي في الشرق الاوسط "مصر" لم يعد حليفا لها وحدها، وأضحى يطرح حساباته الخاصة في كافة المجاﻻت، والتي يتقدمها ملف التسليح الذي أنفقت عليه مصر خلال العامين الأخيرين ما يزيد على 10 مليارات دوﻻر، على أقل تقدير، مما يمثل خطرا عليها.
وبسبب رفض مصر أن تقوم القوات الأمريكية بتدريب قواتنا المسلحة في سيناء لمقاومة الإرهاب، وأن الحرب علي الإرهاب على أراضينا ستخوضها قواتنا وأبطالنا فقط من القوات المسلحة والشرطة.
وأخيرا .. شرفا لنا جميعا أن تكون مصر حليفًا سيئًا لأمريكا، ولا نقبل بتدخل أحد على أرضنا، فهذا شيء نفخر به لا يعيبنا، وأن كنا نتوقع تقارب أكثر مع الجانب الروسي الفترة المقبلة، والتعاون لإعادة توازن القوي العالمية، وتجميد المعونات العسكرية أي تقليصها بشكل كبير و إن كان إلغاءها بشكل نهائي يشكل خطورة باعتباره خرق لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل "كامب ديفيد" مما يعرض اسرائيل للتوتر وزيادة حجم الإنفاق لمنظمات المجتمع المدني والحقوقية في مصر وزيادة نشاطها، وبناءا عليه ستشهد الفترة القادمة توترا بين العلاقات الأمريكية المصرية الي الحد الذي قد يصل إلي تنفيذ تهديدات ترامب بتجميد المعونات الأمريكية ايضا...فلتذهب معوناتكم الي الجحيم... وليذهب مشروع تهويد القدس إلى الزوال ...فمن يملك قوته يملك كلمته، وستظل مصر قوية علي مر الزمان.