افهم يا غبى (2-2)

كنت قد تناولت بمقالى السابق أطروحة المفكر الدكتور وسيم السيسى، الداعى فيها ضرورة تعريف نشئنا وطلابنا على اختلاف أعمارهم وفى كل وقت، حروب الجيل الرابع التي يمارسها الكيان الصهيوني ضد دولنا العربية وشعوبها، مختتما حديثه بتعبيره الغاضب "افهم يا غبى".
واستكمالا لحديثى عن التعليم الدينى في إسرائيل، واحيائهم هويتهم العبرية به، أضيف أن كثرة النداءات بتغيير وتجديد الخطاب الديني في البلدان العربية والإسلامية تتطلب أن نتعرف على الخطاب الديني للعدو، والذي يشكله التعليم الديني، حيث إن الدين في نظر المفكرين اليهود والصهاينة، هو الأساس الذي تقوم عليه الأيديولوجية أو القومية اليهودية وهو القاسم المشترك بين اليهود، الذي يضمن نقاءهم العنصري وولاءهم القومي، وتأثير هذا الخطاب على عقول الطلاب الذين ينشئوهم متشبعين بالعنصرية والتطرف، كما يذكر الدكتور ربيع عبدالوهاب في رسالته (التعليم الدينى فى اسرائيل ودوره فى تشكيل الهوية).
كما أن من أهم السياقات المجتمعية التي شكلت فلسفة التعليم الديني في إسرائيل رغبة الأحزاب الدينية فى احتواء المهاجرين وصهرهم داخل المجتمع الإسرائيلي، تأكيدا لحفر الهوية اليهودية في نفوسهم، حيث تعتبر الديانة اليهودية مصدرًا مهما من مصادر السياسة التربوية في إسرائيل، بالتركيز على تدريس التوراة والتراث اليهودي وتاريخ القبائل اليهودية.
وبالنظر الملاحظ الى عمل التعليم الديني في تشكيل الهوية في المجتمع الإسرائيلي نجد أنه يعد معول بناء شخصية دينية، أيدلوجية لدى خريجيه، يبلور بذاته مفاهيم ومعتقدات يهودية متينة، نابع من المفاهيم القائمة على تعمقه في الدراسات الدينية، وانعكاس هذه المعتقدات والأفكار على تصرفاته ونمط حياته التي يلتزم فيها بأحكام الديانة اليهودية من جهة، وبناء شخصية مثقفة تتحلى بالدراسات الدينية والدنيوية من جهة أخرى.
كما أن من أبرز وأهم ما وجده باحثنا الدكتور ربيع عبدالوهاب أن المقررات التعليمية في المدارس الابتدائية للتعليم الديني الحكومي في إسرائيل تساهم في تشكيل الهوية، وهي مواد الدين والتاريخ واللغة والتربية الوطنية والجغرافيا، وفى البعد السياسي حرصت تلك المناهج أن تعرف الطالب بمن يحيطون به، بأعدائه، وكان لمصر مكانة كبيرة في المناهج الإسرائيلية فتناولتها من نواحي عدة، دينية وسياسية، وحاولت في أكثر من موضع أن تظهر أسوأ ما في مصر، فتحدثت عن المتناقضات الكثيرة في شعبنا المصري، وعن المستوى الاجتماعي والاقتصادي المتدني له، كما قامت هذه المناهج بتقزيم مصر والعرب، وتصويرنا بأننا من أدنى الأمم والشعوب في العالم، ولم تغب قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عن مناهج التعليم الديني اليهودى، إذ أكدت أن الفلسطينيين محتلون، والإسرائيليين أصحاب الأرض، في محاولة لقلب الحقائق ولي نصوص التاريخ وتفسيرها بما يحلوا لهم، فالفلسطيني قاتل، ومغتصب للأرض، وعدواني، ويجب التصدي له وقتله والتخلص منه للحفاظ على الأرض المقدسة التي وعدهم بها الله.
هذا ما يزرعه الكيان اليهودى الصهيوني باطلا وزورا وبهتانا، غرسا في عقول ونفوس وأفئدة طلابه ونشئه منذ صغرهم، وتفتح أعينهم على مناهج ومقررات التعليم لديهم، ولذا لا عجب من حسرة وحزن مفكرنا الكبير الدكتور وسيم السيسى التى شاهدناها في مقطع اليوتيوب المتداول له، وإصراره على أولى الأمر أن يعرفوا نشأنا وأطفالنا وطلابنا ما يحاك لهم ولبلادهم من تفكيك خُلقى وخَلقى وعقلى ونفسى وروحى لهم، ثم ما وجدته بعد ذلك من توصيات لباحثنا القدير الدكتور ربيع عبدالوهاب إزاء ما نحن بصدده.
فيوصى بضرورة توجيه نظر الباحثين في كليات التربية خصوصًا إلى بحث ودراسة التعرف على نظام التعليم في إسرائيل، حيث يعاني هذا المجال من نقص وقصور شديد، وزيادة توعية الشباب بما يمثله الكيان الصهيوني من خطر يهدد الأمة العربية والإسلامية، وزيادة الوعي بعدالة القضية الفلسطينية، وأنها هي قضية العرب والمسلمين الأولى، وضرورة بناء فلسفة تربوية عربية قادرة على مواجهة التحدي الإسرائيلي، مع اهمية إعادة النظر فيما تقدمه المناهج الدراسية في مرحلة التعليم قبل الجامعي خاصة ما يتعلق بالعدو الإسرائيلي، وكيف يتم تكوين فكر الطلاب في البلدان العربية نحو هذا العدو، حتى ينشأ وهو مؤمن بأن اليهود محتلون ومغتصبون، والتأكيد على إبراز معالم الشخصية العربية كأمر أساسي وضروري من ضروريات البناء الذاتي للأمة العربية، خاصة وأن مناهج التعليم في إسرائيل حريصة كل الحرص على تشويه هذه الشخصية، وتقديم صورة مشوهة بالسلبيات، لذا يدعو بوجوب استغلال واستلهام الشخصيات التاريخية العظيمة وإبراز بطولاتها على مسرح التاريخ العربي، واتخاذها قدوة لنا في حياتنا وسلوكياتنا.
كما يوصى باحثنا بضرورة جعل مرحلة رياض الأطفال مرحلة إلزامية، بحيث تبدأ سن الإلزام من الرابعة أو الخامسة ووفق خطة زمنية لتعميمها، حيث إنها في التعليم الإسرائيلي تعتبر مرحلة إلزامية، مع ضرورة توفيق التربية العربية بين حقائقنا التاريخية وتراثنا الخالد وبين التقدم العلمي والمعرفة، لنعمق الانتماء إلى الأمة ونزكيه ونجذره، خاصة وأن إسرائيل استطاعت التوفيق بين الأساطير والخرافات من أجل ترسيخ هويتها الدينية الصهيونية، ودعم الكيان الصهيوني وحمايته، كما ينبغي التأكيد على الذاتية الثقافية التي تعبر عن أصالتنا بما تمثله من عقيدة واحدة وتجانس لغوي وتاريخ مشترك، بشرط ألا يتحول إلى تعصب عنصري، إذ استطاعت إسرائيل أن تستغل تاريخها المزعوم ولغتها البالية القديمة الفانية في إيجاد جيل جديد تم صهره في بوتقة العنصرية، وتوحيده في مواجهة عدو واحد هو العرب.
وإذا كان بناء الإنسان وتنوير العقول وتحصينها من الأفكار الظلامية الهدامة لا يقل أهمية عن التنمية الأمنية والاقتصادية –كما أشار الرئيس السيسى أمس الأول في الاحتفال بالمولد النبوى الشريف وتوازيا مع حادث مسجد الروضة الغادر بالعريش- إن لم يكن الأهم على الإطلاق، و دعوته لتجديد الخطاب الدينى، سعيًا لتنقيته من الأفكار المغلوطة التى يستغلها البعض لتضليل أبنائنا واجتذابهم إلى طريق الظلام والتدمير.
وإذا كانت عملية تنوير العقول وتطوير وترسيخ المفاهيم الثقافية والاجتماعية اللازمة لحماية أبنائنا من الأفكار المتطرفة لا يمكن أن تقودها مؤسسة واحدة أو حتى الدولة بمفردها، بل تتطلب عملًا جماعيًا، تشترك فيها الدولة بمختلف مؤسساتها مع المجتمع بشتى مكوناته- كما يقول السيسى- مثقفيه وكتابه ونابغيه فى جميع القطاعات، ودعوته لنا جميعًا إلى التكاتف من أجل بناء الإنسان والفرد، داعيا كل أم وكل أب أن يحافظوا على أبنائهم من سعى كل غادرٍ لاستغلالهم كوقود للإرهاب والكراهية، داعيا كل شابة وشاب أن يتسلحوا بالعلم وقيم التعايش وقبول الأخر ليواجهوا بها أرباب الجهل وكارهى الحياة، داعيا رجال الدين ومفكريه إلى مزيد من العمل على نشر قيم التسامح والرحمة والاستنارة.
وكل ما سبق ذكره أراه يصب في بوتقة واحدة، تكاملا وإيذانا بتشكيل هوية أبنائنا ضد ما يحاك ويدبر لهم ولبلادنا، فهل نحن مدركون لفلك عدونا جريا وعدوا لذلك؟ أستعيد لفظ مفكرنا الدكتور وسيم السيسى لكل من عميت بصيرته وفؤاده ولبه "افهم يا غبى".