قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

ما تشيل الواد من الأرض


أعترف -بادئ ذي بدء- أننى من عشاق ومحبى الأغنية الشعبية المصرية، بأنواعها المختلفة "أغاني الفولكلور والتراث الصعيدي وأغاني الفلاحين والمواويل"، وأنها تطربنى، كحال الغالبية العظمى من شعبنا الطيب، لما تحويه من كلمات ومعانٍ تنم عن مجتمعنا الشرقى، وبيئتنا المصرية الطيبة الحنونة بدفئها، وبألحانها الجميلة البديعة، والباعثة للبهجة والسرور، مشكَّلَةً فينا ذوقنا الفني منذ الصغر.

والأغنية الشعبية المصرية، وإن كانت لم تبدأ الإذاعة المصرية ببثها عند افتتاحها في منتصف عام 1934، ذلك لأنها لم تكن ولدت بعد، وتركيزا على أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم، اللذين كانا مسيطران على الساحة الغنائية آنذاك، لكن ذلك لم يمنع من وجود تلك الأغاني الشعبية والفولكلورية الموجودة لدى الغالبية العظمى من فئات شعبنا البسيطة، عبر أفراحهم وموالدهم ومناسباتهم الخاصة.

ثم يشاء للأغنية الشعبية أن تنتشر ويُعتَرف بها، عند بلوغ مقوماتها وسماتها الفنية ، في كلماتها ومعانيها وألحانها الجميلة، وذلك بدءا من حقبة الخمسينيات من القرن الماضى على يد المطرب الكبير محمد عبد المطلب، ثم الستينيات بمحمد رشدى والعزبى وغيرهم، حيث الحكاية التي ترويها، والكلمة القوية القريبة من لسان السامع، حتى تختلط بمعجم عقله، وتنضم إلى قائمة مصطلحاته اليومية، كما تذكر مي شحاتة في تقريرها "مدرسة الحياة" بجريدة "الحياة" السعودية.

والناظر والمتأمل لأغانينا الشعبية آنذاك، يدرك كم أنها كانت بالفعل مبعث للسرور، مع ما تحويه من حَكَم وعبر ومواعظ يتعلم منها المستمع، توازيا مع استمتاعه بموسيقاها وألحانها وتوزيعها البديع الراقى، وكم بقيت تلك الأغانى الشعبية بمرادفاتها ومعانيها وبكل ما سبق، عالقة في أذهاننا، محفورة في قلوبنا، نتذكرها دوما بفرح وبشر، وحتى مع قدوم حقبة السبعينيات، وبدء بزوغ نجم وفجر المطرب الشعبى الكبير أحمد عدوية بأغانيه الشعبية ومواويله الشجية، مع ما تحمله من حكم ومبادئ، خروجا من شوارع وحوارى أحيائنا الشعبية، مع ما لاقاه من انتقادات واتهامات عنيفة آنذاك، بتدمير الأغنية الشعبية، وتدنى وهبوط الذوق العام لها وللمستمع ومجتمعه.

ولتنظر متأملا معى -قارئى الحبيب- إلى بعض النماذج من أغانينا الشعبية الجميلة المبهجة الحكيمة التي تحمل الدلالات الإيجابية السالفة، ولتدندن معى بأغنية "ساكن فى حى السيدة"، للفنان محمد عبد المطلب، كلمات زين العابدين عبد الله، ولحن محمد فوزى، والتي يقول فيها: "ساكن فى حي السيدة.. وحبيبي ساكن فى الحسين.. وعلشان أنول كل الرضا.. يوماتي أروحلو مرتين..علشان حبيبي زي الغزال.. يوماتي أهجر حيّنا.. وكل واحد عني قال عني.. عاشق وقلبو مش هنا.. وأنا قلبي متحير ما بين.. السيدة وسيدنا الحسين..أفوت على بيت الحبيب.. أقول جريح يا اهل الهوى.. وياريت يكون لي معاه نصيب.. والحب يجمعنا سوى.. والفرحة تبقى فرحتين.. من السيدة لسيدنا الحسين"، وكيف أنه يصف معاناته فى شوقه ولوعه بحبيبته التي تسكن الحسين وهو في السيدة، وكم يتمنى ويدعو ربه أن تتم فرحته وجمعه بحبيبته، حتى يمتد السعد والفرح لذلك الحيين الشعبيين، ونحن معه، نسمع ونتأمل ونتمنى إتمام فرحته بمحبوبته.

كذلك تأمل معى مستمعا ومستمتعا بأغنيته "يا حاسدين الناس"، كلمات نجاح الغنيمي، ولحن عبد الرؤوف عيسى، والتي فيها يعتب على الحاسدين، ويدعو الله أن يكفيه شرهم: "يا حاسدين الناس، مالكم ومال الناس، ده كل قلب ف ألم، ولكل واحد كاس، يا حاسدين قلبين إيه قصدكم منهم، يا مفرقين حبيبين فرقتوا ليه بينهم، يكفينا شر العين".

وفى أغنية "يا ولاد بلدنا يوم الخميس" لمحمد فوزى غناء وتلحينا، وكلمات صلاح فايز، نستشعر الفرح والبشر مع فوزى، بدعوته العامة لنا جميعا لحضور عرسه وفرحه: "يا ولاد بلدنا يوم الخميس، هكتب كتابى وابقى عريس، والدعوة عامة، وهتبقى لمة، وحيبقى ليا فى البيت ونيس".

وفى أغنية "الأقصر بلدنا" لمحمد العزبى وأدتها معه فرقة رضا للفنون الشعبية بالحناطير فى شوارع مدينة الأقصر فى فيلم "غرام فى الكرنك" عام 1967، تبعث على البهجة، وتعبيرا رائدا لترويج السياحة في بلدنا نفتقده الآن للأسف: "الأقصر بلدنا بلد سواح فيها الاجانب تتفسح، وكل عام وقت المرواح بتبقى مش عايزه تروح، وتسيب بلدنا".

حتى أغاني ومواويل أحمد عدوية، ومع ما لاقته من انتقادات وتهم آنذاك، كانت تحمل معاني وحكما وأهدافا سامية نبيلة، مثل "ياللي معاك القرش، والمال لو مال صاحبه، وزحمة يا دنيا زحمة، وآه يا زمن.. إلخ"، ولا أدل برهانا على ما ذكرته من أغنيته: "السح الدح إمبو، إدى الواد لابوه، ويا عينى الواد بيعيط، الواد عطشان اسقوه، ما تشيل الواد من الأرض، إدِّى الواد لابوه، وياعينى الواد بيعيَّط، صعبان علىَّ الواد"، وكيف أن روح الشفقة والخوف على الطفل تتملك عدوية، ويريد أن يراضيه "بشيله" من الأرض، وإعطاء الطفل لأبوه ليحمله ويقوم بتدليله، ويسقيه ماء ويوقف بكاءه.

ثم ابتلينا بالأغاني الهابطة بدءا من عام 2005 على يد هيفاء بأغنيتها "أنا هيفا"، ثم روبى، ونجلا، ومروى، وسما المصرى، وماريا، ومنة بطلة "سيب إيدى"، وشاكيرا "الكمون"، والآن نتحسر على ما آل له مجتمعنا وبيئتنا المصرية، مما نسمعه قسرا وقهرا في مواصلاتنا وشوارعنا ومحلات البيع والشراء، من ذلك التقيؤ النتن الهابط المسمى الآن "المهرجانات"، والتي طفت على السطح ،حيث الأغاني المبتذلة المتدنية الهابطة، ذات الكلمات غير المفهومة، ودون المعنى، البذيئة، ذات التلميح الهابط تارة، والتصريح المباشر تارة أخرى، بلحن راقص، ليعيث مؤدوها فسادًا وإفسادًا بقبيح كلماتهم العشوائية المبهمة، وغث ألحانهم الركيك، بل يوجد منها الآن مهرجانات "+18 عاما"، ووفقا للموسوعة الحرة ويكيبيديا: "المهرجانات نوع من الموسيقى الشعبية المصرية التي ذاع صيتها مؤخرا، وهي خليطٌ من موسيقى الراب والتكنو، أو موسيقى الكترو-شعبي بصبغة محلية، بدأت في أواخر سنة 2007 وتطورت حتى أخذت شكلا من أغنيات الراب اللي غناها شباب مصريون خرجوا من الأحياء الشعبية والمناطق الفقيرة قبل ثورة 25 يناير فى سنة 2011، وكانت أغانيهم تتحدث عن مشكلات الفقر والتهميش والمخدرات والصداقة، وفي البداية لاقت أغنياتهم رواجًا لدى سائقي التاكسي والميكروباصات وأبناء الطبقات الفقيرة، وسرعان ما انتشرت لدى جميع الطبقات الاجتماعية المصرية، ولم يعد يخلو زفاف أو حفل خطبة من أغاني المهرجانات، ويصاحب تلك الأغنيات نوعٌ من الرقص الشعبي يتناسب مع الإيقاع الموسيقي الصاخب، الذي يؤديه الشباب والفتيات".

وتعرفها الكاتبة اللبنانية آية أبي حيدر بقولها: "هذه الأغاني تتميّز بكلمات شبه سخيفة وفارغة، وبلحنٍ رخيص، لكن يسهل الاستماع إليه وحفظه لأنّه يجذب الأذن، ومع توافر مواقع التواصل الاجتماعي، وبسبب وجود آلات تسجيل الأصوات ومزجها وبرامج التوزيع، أصبح سهلًا لكل من يتمنّى أن يكون فنانًا، أن يصنع وينشر أغانيه بسهولة، وزاد الطين بلة التشويه المتعمد للكثير من أعمالنا الغنائية الخالدة فيها بإعادة توزيعها وغنائها بأصوات كصوت الحمير، دهسًا على أعمال فنانينا الكبار الراحلين.

وأختم متسائلا مع الكاتب السودانى ناذر الخليفة: "وعنكبوت الغناء الهابط لا يزال ينسج شباكه القميئة حول مكتسباتنا الغنائية، ويجثم على صدورنا لفرض نفسه مُطيحًا بذائقتنا الفنية الرفيعة إلى أسفل سافلين!! ونحن لا نملك حيال هذا إلا التحسر والقبول بالأمر الواقع غصبًا عن أنوفنا، طالما أن هذا النمط من الأغاني نسمعه بانتظام في بيوت أفراحنا وتليفزيوناتنا وبعضًا من إذاعاتنا "التخصصية"! ألا يحق لنا أن نتساءل بكل مرارة وشعور بالخًسران والخيبة: لماذا فشلنا في التصدي للأغانى الهابطة ومن يتغنون بها ويصيغون لحنها وكلماتها؟!"، وأزيد: "أين نقابة المهن الموسيقية من تلك المهازل؟ وهل العيب فىَّ؟ أم في زماننا؟ ويا ليتنا لم نسخر من عدوية، وشيلنا الواد من الأرض!!".