عميد الأدب العربي طه حسين هو أحد ثلاثة هم أكثر من قرأت لهم وتوقفت عندهم، إنه يكمل مثلثي المفضل نجيب محفوظ وجبران خليل جبران، والأخير هو أكثر من وجدت كتبه تُعْرَض بالمكتبات العامة النمساوية من الأدباء العرب؛ وذلك بحكم شهرته الهائلة، وكتابته باللغة الإنجليزية، وما تركه من آثار، خاصة كتابه "النبي" الذي طاف بشهرته الآفاق، وكما هو معلوم أن الثاني نجيب محفوظ الوحيد بين الأدباء العرب الذي حاز الجائزة العالمية "نوبل"
في ذكرى وفاة العميد طه حسين ما أحوجنا للوقوف بين يديه، وما أحوجنا للتعرف على رؤاه وفكره، فما أثاره من فكر قد حرك المياه الراكدة التي يركن إليها العقل العربي، والذي عاد إلى سباته، بعد جيل العمالقة، الذين ساروا في تحرير العقل العربي خطوات هامة، ما لبث أن ارتدت على عقبيها بفعل عوامل هامة على رأسها سيطرة أنصار القديم في كافة المجالات بفعل ظرف تاريخي لا يريد لمصر، ومن بعدها العالم العربي، صحوة تمسك بها مصيرها بأيديها.
إن أكثر كتاب ترك أثرا وحراكا لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين هو كتابه في الشعر الجاهلي والذي غير اسمه لاحقا - بعد حكم المحكمة - ليصبح في الأدب الجاهلي ذلك الذي قرأته عدة مرات، والذي مثَّل ثورة فكرية هائلة، كما قرأت الردود على الكتاب، خاصة ردود كل من علي الجندي والدكتور شوقي ضيف، وكلاهما ناقش العميد مناقشة عميقة اتسمت بقدر هائل من الموضوعية، في محاولة مستميتة لتفنيد ما جاء به العميد من أفكار وأدلة، استطاع كل من الجندي وضيف أن يقنعني ببعض تلك الدفوع، وقصَّرا في بعض آخر.
أخطر ما في الموضوع ما ذكره لنا – في إحدى المحاضرات في مدرج كلية الآداب أثناء دراستنا في الفرقة الثالثة – الدكتور محمود لبدة أستاذ الأدب في كلية اللغة العربية بالمنصورة التابعة لجامعة الأزهر الشريف، والذي كان تندبه كلية الآداب ليلقي علينا دروس ذلك الفرع، والذي مازلت أحفظ ما ذكره بالحرف: إن التشكيك في الشعر الجاهلي هو وجه العملة الآخر للتشكيك في القرآن الكريم والدين الإسلامي، هنا يأتي صدام لا فكاك منه وحرب لا هوادة فيها، رغم أن العميد ذكر صراحة في كتابه أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد الذي يعكس لنا بصدق صورة العرب في شبه الجزيرة العربية، كما ينقل لنا حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وقبل ذلك الدينية والثقافية أوضح نقل.
كان العميد يعلم ما سيثيره الكتاب من أزمة كبيرة، لأنه بحث جديد، وكل جديد على الناس غير مألوف، وفي الكثير من الأحيان مُحارَبٌ ولكنه لم يأبه لذلك، وأكد: أن هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد لم يألفه الناس عندنا من قبل، وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقا آخر سيزورون عنه ازورار ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث أو بعبارة أصح أريد أن أقيده فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة.
ويرى العميد أنه ليس سرا ما يتحدث به المرء إلى أكثر من مائتين، وأنه سيذيعه لأنه اقتنع بنتائج هذا البحث اقتناعا ما عرف أنه شعر بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفها من تاريخ الأدب العربي، وهذا الاقتناع القوي هو الذي حمله على تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول غير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بازورار المزور.
وأضاف: أنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق على آخرين فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة، وزخر الأدب الجديد.
اخذنا العميد طه حسين في كل كتبه التي توقفنا عندها في رحلة فكرية، أعلى فيها إعلاء قيمة العقل، ذلك الذي جعله يخوض المعركة تلو الأخرى دون يأس، ودون ملل أو كلل، أراد العميد أن يحرر العقل العربي، فاصطدم أشد الاصطدام بالجمود - وكان له الانتصار - وأنصار القديم الذين شد عليهم العميد من خلال طرحه الذي نظر إلى كافة القضايا بمنظور الشك الذي يؤكد القضية أو يثبت فساد النظر القديم لها.
أراد العميد طه حسين لمصر أن تكون في مصاف الدول المتحضرة، فكتب: مستقبل الثقافة في مصر، ليثبت أن العقلية المصرية تشكلت قريبة من تشكيل العقل الأوروبي وعلينا كما يقول:
أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب
وهنا أثار هذا الكتاب ما أثاره سابقه، وإن كان بدرجة أخف وطأة، حيث رأى منتقدو العميد أنه يذهب في التغريب بعيدا، وهو أيضا ما يرفضه أنصار صدام الحضارتين الإسلامية والمسيحية، وهو ما لم يكن يرى العميد فيه صراع حضارات بقدر ما هو صراع مصالح يسعى لها كلا الفريقين، ويحققها ساكنو أحد شاطئي المتوسط في حقب تاريخية متتالية.
وفي الفتنة الكبرى يكرس طه حسين كتابه للبحث في الفتنة، التي حصلت أيام عثمان رضي الله عنه، وامتدت آثارها إلى أيام علي رضي الله عنه، ومازال المسلمون يحصدون آثارها إلى الآن، وهو في كتابه هذا ينظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بإيمان بطائفة، وإنما يصدر عن نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريدًا كاملًا من النزعات والعواطف والأهواء مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها، لذا تراه يقف أولًا عند تجربة حكم الشيخين أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقفة متأنية لاستقراء إمكانية بقائها، والوقوف على أهم انعكاساتها، فهذه الوقفة تتيح للباحث فقه هذه المشكلات الكثيرة التي ثارت من نفسها، أو أثيرت أيام عثمان لا لأن عثمان كان هو الخليفة، بل لأن الوقت كان قد آن لبثور بعض هذه المشكلات من تلقاء نفسه، وليثير الناس بعضها الآخر.
لقد أعلى عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين العقل إلى تلك الدرجة التي أرادها له الله سبحانه وتعالى، والذي بسببه كان مناط التكليف الذي خص به الله سبحانه وتعالى الإنسان، لم يُخْضِع العميد العقل لقوالب وثوابت لم يفرضها الله سبحانه، بل فرضها فهم لأناس وضعوا أنفسهم أوصياء على البشر.
وفي ذكرى وفاة العميد الدكتور طه حسين الرابعة والأربعين تتذكره فيها وما أحوجنا لمنطقه وفكره ومنهجه في البحث الدرس.
إن العميد مثله مثل عظماء الفكر والإبداع، لا يجود بهم الزمان إلا في دورات قليله من دوراته المتعددة، فيظل ينظر الناس في إنتاجهم الغزير والثري على مر الزمان.