الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

انظُر حولَك


ساعِة العَصاري، الجو هادِي، والشارع بينادِي يالا يا ولادِي، ومن هذا الذي يجرؤ على تجاهل ذلك النِداء الْجميل الذي لا يتلقاه إلا كُل ذو حَظٍ عَظِيم.

كان أغسطس لَكِن ليس كهذا الأغسطس، وكنّا على ما كنّا فيه ولم نُبقِ عليه، أحلامِنا أكبر أعمارِنا أصغَر قاماتِنا أقصَر أنفاسِنا أطوَل، لا تِكِل ولا تهدأ مِن هذا المَطلَب هيا بِنَا نَلعَب ونجعَل مِن الشارِع أسعَد ملعَب!
فالشارِع المِصري يُعَدْ مُنذ نُعومِة أظافِر الحضارة المِصرية ومن أولى لحظات ميلادها علي ضِفاف نهر النيل، بمثابةِ دار للتربية، يُعَلِمَك آدابه ويُربي فيك أخلاقُه.

كان وما زال وَلَكِن المُقَرِّر الذي كان يُدَرَس في حَرَم شوارعنا ظلَ ثابتًا على مدار سبعةِ آلاف عام، لم يخضَعْ إلا للتغييرات الطفيفة التي تطرأ على المجتَمَع من فترة لأخري بفِعل التطور التكنولوجي كظهور السيارات أو اختراع التليفزيون!

وأحيانًا بفعل التغيير المجتمعي نفسُه كإدراك الأسر أهمية تعليم البنات ومُطالبة الفاتنات بعد ذَلِك بأحقيتهُن في العمل، ما ترَتَب عليه أحقية وجود المرأة في الشارِع دُون إثارِة المَتاعِب!

ولكن دوام الحال من المحال فتبدل الحال منذ ما يقارب الرُبع قرن وأصبَحَ الشارِع دارًا (للا تربية)، اللهم إلا مِن
تربيةِ السقوط إلى الهاوية!

كانَ للشارِع علامات وعلامّات، فالعِمارات تفوح منها رائحة "الساڤو" - مسحوق الغسيل الأول في تِلْك الحِقبة- الشوارِع تُظَللها أشجار الڤيكس، والشبابيك تتدَلَي مِنها نَبتِة اللبلاب المُبهِجة لتعانق شَجَرَة الياسمين المزروعة في مَدْخِل العِمارة أو في حديقتها الجانبية.

نعَم فَقَدْ كانت الغالبيةِ العُظمي للمنازِل بها حديقة وكانت زراعتها واجِب الكِبار ورعايتها مسؤولية أطفال العقار،
فتِلْكَ الحديقة بالرّغمِ من صِغَرِها كانت معملًا للعلوم فهذا يزْرَع البطاطا وهو في الغالِب الأكبر سنًا بينَ أقرانِه الذين لايزالون يزرعون الحِلبة والفول ليشهدوا ميلاد الفرع الأخضر، الذي يتسَلَل باستحياء ليطُل برأسِه على الحياة محطمًا بنداوتهِ قشور البذور الصلبة فيخرُج مِن قَلبِ القسوة فُرصَة!

أحكيتُ لَكُم عَن الڤرندات! التي أصبَح اسمها العِلمِي في عَصْر البُلوكات بلكونات! كانت لگُلِ ڤرندا شخصية مُستَقِلة في خصوصيتها ومتوحدة في ملامحها مَعَ باقي أخواتها، لا فَرَق بينَ ڤرندة طنط "سوسو" عَن طنط "فيفي" إلا في النقوش التي تُزَين المفارِش التي ترقُد بدلال على الطاولات، فهذا تتصدر أوسَطُه رأس نفرتيتي بشموخ وعلى أطرافه عازفات الهارب يتلون بأجلال صلوات السلام، وَذَلِك تملأه العربات الحربية الفرعونية مُتبارِكة بصولجان مينا ومُقَدِسةً رأسْ أُحمُس، لا يؤرِق وداعتِها إلا فناجين القهوة الصباحية التي تُعانِق جرائد الطَبعة الثّانية.

التي ألقاها ذَلِك الفتي الأسمَر، ذو الضَحكِة البيضاء التي تعلو مَعَ كل جريدة يقذفها وتقع في مرمى هدفُه ببراعة، وبيدٍ واحدة حيثُ إنَ الأُخري منشغِلة بالسيطرة على جادون الدراجّة ذات العَجلتين.

وبعينٍ مُنفَرِدة فالثانية تغمِز للصغيرة التي تداري التجعيدَة في قَسَمات شَعرِها بضفائرها المجتمعة فوقَ كتفيها وبالرغِم مِن تسللها على عَجْل من غرفة أبيها عَم جميل حارِس العقار الأصيل، إلا أنها لم تنس أن ترتدي عُقدها البلاستيكي الملّوَن فأحدي ألوانه تُقارِب بريق عينيها، عندما تسمَع صوت جرس الدراجة الذي ينطلِق بمثابةِ الأشارة لتخرِج من صَدفتها لاقتناص نظرة من تِلْك العيون البُنية.

نَظْرَة تَدْفَع الدَّم لوجنات قائد الدرّاجة التي تنطلِق برشاقةٍ، تخطَف ألبابِنا نَحْنُ الصِغار، فنوقِع اتفاقًا بنظراتنا حتى لا تكشِفُه عيون آبائنا، أن الليلة لن تنتهي إلا وَنَحْن للجرائد مُلقون وبتلك الخِفَة قائدون لدرّاجاتِنا فنحنُ قادرون وللمَجد مُحققون، ولكن وكعادِة المرات لا تنتهي إلا بالتشوهات، الذي يُسجِّل ذكراها ويدوِن اليومْ على أرجلنا الصغيرةِ ذَلِك السائل الأحمَر المدْعُو بالميكريكروم، ذكرى تدوم لفترة كافية أن نصرِف نَظَرا عَن التجربة.

لمْ تكُن السيارات بهذا العدد الذي أحال الشوارِع جحيمًا مُستعرًا، كانت تَصْطَفْ صفًا واحدًا وكل سيارة تعرِف مكانها الذي لا يتغير إلا في الظروف التي تتطلَب أن يكون "الناس لبعضيها"، لمْ يَكُن هناك وجود للحجر الذي يقْصِم باطِن سيارَتَك إذا ما رودّت لَكَ نفسك الأمارة بالسوء أن تركِنها دُونَ أن تستطلِع المكان وتتأكد مِن خُلُوه من الدلو العجيب المليء بالأسمنت الرهيب أو الأحجار غير الكريمة والسلاسل اللئيمة !

كانت الأَرْض تتزين بالرصيف ببلطاتِه الملونة وخطوطه العميقة التي كانت تمنعنا مِن الانزلاق إذا ركضنا، وتقوم بدور حارِس المرمَى إذا ما لعبْنا بكراتِنا الكريستالية المُلوَنة التي كانوا ظُلمًا يطلقون عليها "البِلية"!
 
لم تتأثر ألوانه بأصابِع الطباشير المُلونة التي كنّا نستخدمها للعِب "الأولى" قبلْ أن نُدرِك مَعنى كَلمِة "الأخيرة".

استعمرنا القُبح فاستقبلناه بأذرعٍ مفتوحة تليقُ باستقبالِ الفاتحين، فالعشوائية أخذنا بها قرارا والإهمال مَسلَكِنا بإصرار، والنتيجة؛ انظِّر حولَك لن تَجِدُ ما يسُرَك.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط