الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

وحدة حساب الإنسانية ايه؟


لم تكن حياته فى الخارج بالتى تجعله مكتفيا مشاعريا، فقد قضى فى غربته عمرا ترقى فيه إلى قمة المناصب وأعلاها واصبح رصيده البنكى ممتلآ عن اخره، ولكن هناك بين ضلوعه فراغ يزداد طرديا مع زيادة المال والمناصب ، ولايعرف سبب الخواء العاطفى على الرغم من انه يحيا حياة أسرية مستقرة وفيها كل النعم من زوجة صالحة جميلة وابناء يحسد عليهم، وكان كلما سأل نفسه عن سبب فراغها المشاعرى لم تكن إجابتها عليه بالكافية الشافية.

ظل يصارع هذه الحالة ويهرب منها بالانغماس ليل نهار فى العمل والمناسبات الاجتماعية والوطنية، وكان كلما ابتعد لحظة عن هذين المهربين يعتريه الحزن وتتكالب عليه الذكريات وتأخذه الى حيث الوطن، الى النشأة الأولى، إلى الوراق حيث ترعرع هناك فى تلك الجزيرة المحتواة من كل جوانبها بالنيل وكأنه اب رؤوم من خشيته على اولاده وضعهم فوق قلبه وسهر على راحتهم .

فى تلك البقعة الجميلة نشأ هو وأخوته الخمس من أب وأم لايشغلهما مال ولاتجارة عن رعاية ابناءهم وتقديم كل شىء من أجلهم ومن أجل إسعادهم ،فى الجزيرة ترعرع وعليها تنقل ومنها خرج ليتعلم ويتألم بمواجهة واقع بلده الذى لم يكن متعاطفا معه ولم يجد له عملا وانتزع منه أمل البقاء مع أهله فى حضن النيل وبين ضلوعه ،وتظهر له فرصة السفر الى الخارج لتخصصه الفريد فى علم الوراثة، ويبشر أبويه وأخوته ويطمئنهم على أنه لن ينساهم .

وبقدر فرحته على بياض مستقبله فى الخارج بقدر انتزاع مكانة من قلبه فى مكانها فى الجزيرة ورفضها السفر معه ليترك قلبه فى القاهرة ويذهب ماتبقى معه يبنى ويخطط ويحصد نتاج عمل متواصل جعله فريدا متفردا وايضا جعل كيسه مليئا بالذهب عن اخره ،لم يكن جاحدا ولا ابنا عاقا بل كان بارا بوالديه كريما مع اخوته ،ولم يقصر فى حقهم كلهم ،ابويه ارسل لهما الاموال لينفقا منها كيفما شاءا وايضا ارسلهما ليعتمرا ويحجا اكثر من مرة وفى الدرجات العلى من سفر الحجيج .

اما عن اخوته فقد كان يعطيهم بغير حساب ولم يكتفى بمساعدتهم فى مصاريف تعليمهم وزواجهم ،بل اقام لهم مشاريع تكفيهم واهل المنطقة لاعمارهم واعمار قادمة،وكان يسعد ايما سعادة بسعادتهم التى هزتها وزلزلتها وفاة ابويه فى فترة متقاربة ،فقد توفت امه فى اول شهر رمضان وتبعها ابيه فى اول ايام عيد الفطر ،ويتذكر انه عندما اخبروه بوفاة امه لم يكن مصدقا لانه كان على قناعة بان امه لن تتركه ابدا كما عودته منذ صغره ،حتى فى سفره كان اما مرسلا اليها لتقيم معه واما حاضرا اليها فى الاجازة السنوية ليعيش لها ،ويتذكر ان موت امه حوله كهلا على الرغم من كونه ساعتها لم يبلغ الاربعين ،تحاصره ذكريات عدم تمكنه من المجىء قبل دفنها والقاء النظرة الاخيرة عليها والنزول معها الى قبرها وتوديعها الوداع الابدى ،ويذكر انه جاء فى السرادق الذى اقامه لها وتلقى العزاء فيه ،وهلع عندما راى ابيه بهذا الشحوب والحزن واصر ان يند اجازته ليستكمل اوراقا لابيه كى يصطحبه معه ليرعاه صحيا كما قال لاخوته وان كان السبب الذى لم يصرح به هو خوفه من ان يتركه كما تركته امه ويموت بعيدا عنه.

اكمل اوراق استقدام ابيه معه ولكن الله كان قد اسقط ورقة ابيه من الدنيا لينعم مع زوجه بالاخرة ،وعلى قدر حزنه على فراق ضلع حياته الايمن بعد فراق صميم جسده الا وهى امه ،بقدر هذا الحزن بقدر فرحته بانه كان مع ابيه فى لحظات الوداع المنتهية بلا اعادة او عودة ،لملم ماتبقى لديه من رغبة فى الحياة واحتضن اخوته ووصاهم بالترابط والارتباط وسد اى باب للفرقة والابتعاد والبعد والبعاد ،وعاد الى غربته الا انه رغم حزنه الا انه عاد برصيد من الاتزان الشعورى اخذ منه جرعة جرعة حتى نفذ وعادت اليه مشاعر الخواء الشعورى غير القابلة للعلاج او الاحتواء ،يأخذه هذا الخواء الى اى مكان وكل الاماكن التى يشتم فيها رائحة نشأته من اصدقاء يعيشون معه فى غربته الى اماكن تشبه جزيرته الى ادمان مشاهدة كل ماهو مصرى الاف المرات وبنفس الشغف والاشتياق الاولىً،وفى اثناء مشاهدته لقناة بلده الفضائية والتى كانت نافذته على التعرف على كل مايدور ويجرى فى وطنه ،يشاهد فى هذه القناة اخلاء مواطنيه من جزيرتهم ويهلع ويجزع ويغلق التلفاز ويجرى اتصالات متعددة بكل من شرب من النيل ولكل من ترعرع على ارضه ويقص عليهم ماشاهده ويفضفض لهم بما شعر به ،ومنهم من يثمن شعوره ومنهم من لايأخذ حديثه مأخذ الجد ويعتبرونه مبالغا فى وصفه ،ليأخذ هو قرار العودة لان حياته اصبحت منقوصة ، ومشاعره صارت مبتورة ،وفوق كل هذا يراوده الحنين الى الماضى وان ينهل من الذكريات التى يريد ان يشبع منها فى احاديثه مع اهله واصدقاءه وجيرانه ،ويعود وحده لان زوجته وابناءه يرفضون العودة النهائية ويؤكدون له انهم سيأتون فى العطلات والمناسبات.

فور عودته وهبوط طائرته على ارض المحروسة يشعر ان الجزء المبتور منذ سفره الطويل عاد الى مكانه ويشعر ايضا ان انفاسه استقرت ويرى فى الأفق ورقة تسقط من العلا ويهم بالتقاطها مستبشرا بها لأنها هبة السماء ويمسك بالورقة ويشاركه فى الإمساك بها أمه وأبيه.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط