EN
يندر في هذا الزمن الرديء الذي يعصف بمنطقتنا أن تجد واحة جميلة بعيدة عن التعصب والكراهية، ويندر أن تجد رجلًا ما أعطى لهذه الواحة قيمتها الجميلة؛ بابتعاده عن العصبية الطائفية البغيضة ليتحول إلى مثال يحتذى بأصول التعاطي مع الآخر، واحترامه ومحبته والتعامل معه كإنسان.
ورغم الندرةإلا أنهوجد لكنه للأسفرحل، وفقدانه ليس بخسارة لأهله وأقاربهفحسب، بل لمحيطه الصغير- الكبير الذي بكاه حسرة، فتحول من طبيب ناجح إلىأنموذج للمواطن - الإنسانالحقيقي، روجيه أنموذج لا يحتاجه لبنان فقط، بل تحتاجه كل دول منطقتنا، فكم من روجيه يحتاج لبنان وسوريا والعراق ومصر والأردن، في ظل غيمة الكراهية الجاثمة فوق رءوسنا.
هذا الرجل - الأنموذج هو الدكتور اللبناني روجيه الجاويش، وهو ابن بلدة جون اللبنانية التي تمتاز بتنوعها الديني الطائفي، وجون شأنها كشأن باقي بلدات وقرى ومدن لبنان تعرضت لعواصف قاسية هزتها أثناء الحرب، وكان من حظ هذه البلدة أنها كانت على موعد مع كوكبة من أبنائها عملوا على إزالة آثار العاصفة البغيضة، وروجيه واحد منهم.
روجيه دكتور ممارس لمهنة الطب، يحسب له تقديمه الاستشارات وصولا إلى العمليات مجانًا تارة، وبمبالغ رمزية تارة أخرى، يحسب له تدخله الفوري لمساعدة المريض أيًا كان وإحالته لطبيب مختص بحالته إن لم يكن من اختصاصه هو، وقد يقول البعض أن هذا الأمر هو شيمة الأطباء، لكن الرد هو أن هذا الأمر هو شيمة الأطباء الحقيقيين الذين هجروا هذا الزمن.
روجيه كسر قواعد الحدود الطائفية، فأصدقاؤه والمقربون إليه من غير طائفته كثر جدا ويفوقون فعلًا أبناء طائفته أو ملته، مما عرضه للكثير من الانتقادات والتجريح إلا أنه كان يواجهها بابتسامته المشهورة التي لها ألف معنى ومعنى.
من المعروف أن كل من يعمل بالشأن العام المرتبط بالشأن السياسي يخسر الأصدقاء ويراكم الأعداء أمامه، إلا أن روجيه كسر القاعدة، فبعد انتخابات بلدية شرسة فاز مرة وخسر أخرى، لكنه بدلًا من فقدان الأصدقاء زاد عددهم، وظل على مسافة قلبية واحدة من الجميع.
روجيه برحيله حول الكنيسة إلى تجمع لابناء بلدته ومنطقته، من كل الطوائف، بكاه المسلم والدرزي والشيعي والسني والكاثوليكي والأرثوذكسي والماروني، وفي بلد مثل لبنان قلما تجد شخصًا يبكيه مجموعة متنوعة من هذه الاتضاد التي تتناحر في كل وقت وكل آن.
رحل روجيه فجأة وبهدوء قاطعا الرحلة، كان لوجوده بيننا سبب، ومن الأكيد فإن لرحيله أسبابًا، ولعله أراد أن يبقى شعلة جميلة في القلوب تعيد التذكير بالمحبة والصدق في زمن الكره والكذب.
روجيه ابن بلدة جون التي كان من الحظ الكثير بأن اتربى بين ثنايا قلوب أهلها الطيبيين، جون البلدة الجميلة التي لطالما أنجبت الطيبيين والمميزين، ولعل ذكرى روجيه ومسيرة حياته تعيد من أضاع طريقه إلى الصواب ودرب الحق.
