قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

الكافر والمستنقع!

×

لعله من المناسب البدء بالتأكيد على أن الكلمة كائن حي؛ يولد وينمو ويكبر ويشيخ ويموت، يعلم ذلك الدارسين للغات، ويدرك هذه الحقيقة المشتغلين بأصل اللغات، ويرى ذلك يمشي على قدمين الدارسين لفقه لغة من اللغات، الذين يعقدون مقارنات بين اللفظة في شكلها المعاصر وأصلها وجذرها اللغوي.

كل ذلك شيء في اللفظة ذاتها من حيث البنية والشكل، ولكن هناك ما هو أخطر من ذلك بكثير وهو ما تحمله اللفظة من إيحاءات، وما تتشبعه من دلالات، وما توحيه من معانٍ مختلفة، وما تتركه في قلب السامع قبل أذنه من إيمان وقيم.

من مزايا الشاعر المجيد أو الأديب الأريب أن يعيد الكلمة إلى طفولتها، وأن يجعل اللفظة تشع بأكبر قدر مما تمتلكه في الأصل من إشعاع حينما نطقت لأول مرة، تلك براعة يملكها ندرة من الشعراء والأدباء والكتاب، تلك الندرة التي تعتلي قمة جبل الموهوبين، والذين هم على مستوى العالم في كل اللغات وفي كل العصور ما يشار لهم بالبنان، ليس من بين هؤلاء بالقطع، الذين لا يفقهون من الكلمة سوى معناها المعجمي، ولا من الجملة سوى تركيبها النحوي، ولا من العبارة إلا معناها السطحي، فهؤلاء بينهم وبين تقييم الأعمال العظيمة، فضلا عن إبداعها، بون شاسع.

بعض البسطاء، أو ما يمكن أن يطلق عليهم أنصاف المتعلمين، وعديمي الثقافة، يأخذون المجتمع في طبقات متتالية من التيه، وللأسف الشديد، أن كثيرا من هذا البعض ممن ينتسبون للدين، وذلك بسبب بسيط، وهو إيثارهم الراحة، وحبهم للدعة، فمعرفة بعض العلوم بلا تعمق، عند الباحث أو الدارس، هو الدعة عينها، حيث أن التبحر العميق في فرع من الفروع في حاجة إلى جهد جهيد، أظن أنهم يلوون أعناقهم عنه عمدا، لأنهم يدركون أنهم له غير مؤهلين، ويكتفون بالقشور، عن عمد أيضا، لأنهم اختاروا سوق العمل الذي يدركون أنه التجارة الرائجة: ماديا ومعنويا، فحينما تكون الشريحة المستهدفة هي هؤلاء من بسطاء الشعب، ومَنْ يمكن أن يوصفوا بالدهماء، فيكفيهم أن يتعرفوا على الكلمة في معناها المعجمي، والجملة في مدلولاتها عند البسطاء، ثم بعد ذلك يرتدون الزي المناسب لما يريدون الترويج له، وهم على يقين أن كلمتهم ستجد من الآذان المصغية الكثير، ومن العقول الضيقة العديد، ومن القلوب السقيمة الكافية.

ولنأخذ مثلا لما يمكن أن تحمله الكلمة عبر الأزمان من دلالات متباينة، وما كان يصلح أن يكون مدحا في عصر، يمكن أن يصير ذما في عصر آخر، ففي العصر الجاهلي، على سبيل المثال، كان الشعراء المجيدون؛ هؤلاء الذين يملكون القدرة على الابتكار في التشبيه، والإبداع في الصورة، كان هؤلاء يشبهون ريق المحبوبة في القبلة الطويلة التي تتبادلها بلهفة مع المحب بماء طيب المستنقع! حيث أن المستنقع يحتوى على الماء الذي هو شحيح في بيئة صحراوية قائظة، وهنا يكون التشبيه في محله ويعطي روعة وجمالا للمشبه به وهو القبلة بين حبيبين، كما وصفها شاعرنا الجاهلي الحادرة في قوله:

کغریض ساریة أدرته الصبّا / من ماء أسجر طیّب المستنقع
فهل يمكن في عصرنا الحالي! لإنسان جاهل فضلا عن محدود التعليم فضلا عن الشاعر أن يصف القبلة مع الساقطة وليست حبيبته بهذا التشبيه!

ومثال آخر قريب جدا مما نبحث الآن فيه وهو لفظة الكافر التي يشترك في معناها المعجمي! المنكر لله سبحانه وتعالى والفلاح الذي يغطي البذرة في الأرض، حيث أن معنى كلمة الكفر في المعجم: كَفَرَ الشَّيْءَ : سَتَرَهُ، غَطَّاهُ كَفَرَ عَلَيْهِ كَفَرَ اللَّيْلُ الْحُقُولَ : غَطَّاهَا بِظُلْمَتِهِ وَسَوَادِهِ كَفَرَ الْجَهْلُ عَلَى عِلْمِهِ: غَطَّاهُ كفر الشّيء / كفر على الشّيء: ستَره وغطّاه :- كفَر الزّارعُ البذرَ بالتراب .

والسؤال الذي نطرحه الآن: هل بإمكاننا أن نطلق على الفلاح لقب الكافر بمعناها المعجمي والذي لا شيء فيه؟ إن الإجابة القاطعة هي النفي يقينا، تلك الإجابة التي تحيلنا لسؤال آخر عن السبب في ذلك!؟ والذي تأتينا إزالة غموضه فيما سطرنا سابقا، من كون اللفظة كائن حي، ويحمل مع الزمن دلالات، تتراكم، تجعل إطلاقها يترك في النفس اثرا بالغا، حيث حُمِّلت اللفظة عموما بجانب معناها المعجمي شحنة هائلة من الكراهية، يمكن أن يعبر عنه إلى اقصى مدىً ما ننطق به في لغتنا الدارجة؛ حينما يأتي أحدهم عملا شنيعا بشعا، فإذا بأنسب تعليق يصف تلك البشاعة أنه – أي هذا الفعل المستهجن والبشع – لا يصدر حتى من الكافر! في إشارة لأن هذا الفعل تجرد من كل معاني الإنسانية، تلك المعاني التي يتمسك بها كثير ممن ينكرون وجود الله، أو هؤلاء الربوبيون الذين يؤمنون بوجود الخالق ولكنهم ينكرون الأديان جميعا إنكارا تاما، والذين التقيت بعضهم، وإذا بهم يعلون القيم الإنسانية إعلاء.

مما ينسب لإمامنا أبي حنيفة قولة أراها تقترب من الإعجاز، حينما ذكر: اعطني ما ينفع الناس "المجتمع" أعطك ما يسنده من الشريعة! وهنا نسأل هؤلاء المكفِّرين؛ أليس إشاعة التكفير فيه ضرر للمجتمع؟ وعلى العكس أليس إشاعة الحب بالابتعاد عن التكفير فيه سلام وسلامة لذلك المجتمع؟

ليس هناك دين حق إلا وجاء ليشيع السلام والأمن والحب في المجتمع، ونحن على يقين صدق من ديننا الحنيف، كما أن المسيحي وغيره من معتنقي الأديان الأخرى على يقين من أديانهم، التي خلقها الله جميعا، كما خلقنا مختلفين، سنة من الله في خلقه، تلك التي علينا احترامها، كما نطالب غيرنا باحترام ديننا، ذلك الاحترام الذي هو السبيل الوحيد لضمان السلم الاجتماعي.