سيظل الأزهر الشريف، رغم ما يثار حوله بين الفينة والأخرى، هو الصرح الإسلامي الأول في العالم الذي يستطيع أن يواجه ما يخرج من فكر " إسلامي" معوج، وما يصدر من شبهات تستهدف الدين الإسلامي في كليته، وما يستحدث من أفكار تبعد الناس كثيرا، ليس عن الإسلام فحسب، بل عن كافة الأديان.
الأزهر الشريف هو المؤسسة المنوط بها الذود عن الدين وقيمه، كما هو المرجعية التي ينظر إليها، وينتظر منها المسلمون أن تلعب الدور الأول في توجيه العقول وقبلها القلوب إلى صحيح الدين، فمهما لبس بعضُ من يطلقون على أنفسهم دعاة، وهم ليسوا من المؤسسة المعتمدة عند كل المسلمين، من لباس ديني، ومهما زعموا زعما فقهيا، فإنهم لن يطاولوا هذا الصرح الشامخ وعلماءه الكبار.
أعود بذاكرتي يوم أن اختار الله سبحانه وتعالى مولانا فضيلة الإمام الأكبر السابق الدكتور محمد السيد طنطاوي إلى جواره، وكان أول من أبلغني الخبر صديق قبطي اتصل بي معزيا، حيث كان وقت عمل لي، وجاءت ساعة الإمام بغتة وهو في الأراضي الحجازية المقدسة، وجاء صوت صديقي القبطي حزينا متألما لفقيد العالم الإسلامي والمؤسسة الأهم فيه، وتقبلت عزاء صديقي القبطي متأملا هذه الروح المحبة التي شارك في صنعها الفقيد العزيز لما كان يصدر عنه من محبة ولقاءات مع قداسة البابا الراحل شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وتلك العلاقة التي جمعت الرمزين الكبيرين والتي تأثر بها أبناء مصر جميعا مسلمين وأقباطا، وإن اتُّخِذَت وسيلة للهجوم على الشيخ الجليل من الجماعات الإسلامية المتطرفة التي هي في حالة عداء كامل مع كل المختلفين معهم: سواء كانوا من أصحاب العقائد الأخرى أو من المسلمين الذين يرون غير ما يرى هؤلاء.
مضى بعض الوقت وكنا في انتظار أن يتم الإعلان عن شيخ جديد يجلس على كرسي المشيخة العريقة العظيمة، وفي اليوم المزمع الإعلان فيه عن شيخنا الجديد، كان هناك ميعاد لي مع أحد المسؤولين يجمعنا به مقر السفارة المصرية بالعاصمة النمساوية فيينا، والتقيت المسؤول رفيع المستوى، قبيل إعلان اسم الإمام بعدة دقائق سألني خلالها عن توقعاتي، فأجبت: بل أمنيتي أن يكون الدكتور أحمد الطيب الذي رأيته امتدادا لمشايخ الأزهر العظام، لما يتمتع به من عقلية نقدية قبل أن تكون نقلية، وكان الإعلان عن اسم الشيخ الجديد محققا لتوقعي، وانتصارا، على ما آمنت، لتيار العقل المجدد في المؤسسة العريقة.
جرى في النهر مياهٌ كثيرة منذ أن جلس مولانا فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب على كرسي المشيخة، كان أكثرها عنفوانا وأقواها وجود الإخوان في سدة الحكم في مصر، ولعل المشهد الذي نُقِلَ على الهواء مباشرة من جامعة القاهرة يؤكد ذلك، حيث كان من المفترض أن يحضر مولانا فضيلة الإمام خطبة للرئيس المعزول محمد مرسي ولاقى حينها معاملة لا تليق بفضيلته في قاعة المؤتمر ما اضطره للمغادرة فورا، في إشارة تعكس إصرار الرجل ألا يُنال من مكانة الصرح الإسلامي الكبير متمثلا في شخصه.
لم يكن ذلك فحسب بل بعد تلك الثورة العارمة التي اجتاحت البلاد طولا وعرضا، شمالا وجنوبا، رافضة حكم جماعة الإخوان المسلمين، رفضت الجماعات الإسلامية، الانصياع لرغبة الشعب، واعلنت هذه الجماعات الإرهابية المتعددة التحدي والنفير، كانت داعش أقسى هذه الجماعات، وأعنفها، حيث عكست صورة بغيضة عن الإسلام الذي تُلْبِس كل أعمالها الإرهابية البشعة ثوبه، وتؤصل لكل ما تقترف من منكر بمنهجه، ذلك الذي دفع الأعناق مشرئبة تجاه منارتنا الإسلامية المعتدلة تريد توصيفا لهذه الجماعة البشعة، فإذا بالأزهر لا يصدر تلك الفتوى التي تنتظرها الأغلبية الساحقة من المسلمين بتكفير داعش - والتي كانت الأسهل والأيسر - ذلك الذي صب على المؤسسة وشيخها الإمام الأكبر الهجوم، متهمين المؤسسة وكذلك القائمين عليها بموالاة أو في الحد الأدنى غض الطرف عما تقترفه داعش وأخواتها.
وإذا نظرنا للأمر بعين فاحصة لوجدنا أن تكفير الأزهر لداعش كان هو أيسر طريق يمكن أن تتخذه المؤسسة العريقة، ففيه ببساطة التخلي عن مسؤولية المواجهة، فما أسهل أن يتم إطلاق لفظة خارج عن الملة أو مرتد أو كافر، ولكن أن يصر الأزهر عن الامتناع عن تكفير تلك الفئة الباغية، على حد تعبير المؤسسة الأزهرية، فإن ذلك ما وضع على الأزهر جسام المسؤوليات، وعظائم الأعمال، وأظن أن الازهر اختار الطريق الصعبة، التي عليه أن يقطعها بكل حماسة ونشاط، فمعنى ان يعلن مولانا فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب – في مؤتمر الازهر للسلام الذي عقد في زيارة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان منذ أيام - أن هذه الفئة الباغية قد اختطفت بعض الآيات، فهذا يُتَضَمَّن اعترافا بوجوب إعادة هذه الآيات المختطفة إلى سياقاتها الطبيعية، وذلك الذي قصدت به الطريق الوعرة التي ارتضاها الأزهر أن يمشيها بتؤدة، حتى نصل في نهايتها لديننا رائق صاف يدعو إلى المحبة والتسامح بالموعظة الحسنة.
لا أستطيع أن أقرأ رفض الأزهر الشريف تكفير داعش بمعزل عن عزله لرئيس جامعة الأزهر الذي حكم، بسبق لسان، على الباحث الإسلامي إسلام بحيري، الذي يهاجم مؤسسة الازهر والقائمين عليها هجوما شرسا، بل يخوض معها ومعهم معركة وجود، بالمرتد، فعلى الرغم من صدور بيان من رئيس جامعة الأزهر، يعتذر فيه عما بدر منه من وصف بحيري بالمرتد، إلا أن مولانا فضيلة الإمام قد أصر على عزله، في رسالة واضحة أن منهج الأزهر الشريف هو مواجهة الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة والدليل بالدليل، مهما كان الضرر الذي يصيب الإسلام، كما هو الشأن مع ما تقترفه داعش، ومهما كانت الخصومة، كما هو الحال مع الباحث الإسلامي إسلام بحيري.