الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ولو قدرت تحسب حب الوطن بالكيلو ولا بالمتر؟


لم يكن ديمترى مجرد مواطن يونانى الجذور مصرى النشأة بل كان عاشقا لتراب مصر وكان إذا ما أرادوا أن يستفزوه يقولون له انت يونانى مش كده؟ ويأتى رده متعصبا أنا مصرى يونانى..

وظل هو على دفاعه عن مصريته واحتفاظه بإجادته اليونانية والتى عمل بها فى جهاز ماسبيرو العتيق عمرا طويلا ووسط كل هذه التعبيرات المرسومة على ملامحه الممزوجة بجينات الشرق والغرب كان هناك جانب خفى من حياته لا يطلع عليه أحد إلا هى ذلك التمثال الموروث من أبويه والمنحوت والمسمى باسم مصر فكان كل ليلة يدخل حجرته وينزع الغطاء عن تمثاله ويسلم عليه بطريقة أهل الدين فى دور العبادة ويحكى له كل مادار فى يومه ويشكو من قسوة أبناء الوطن على مصريتهم وعدم تفانيهم فى حبها وأيضا يطلعها على حبه المتدفق لهذا الوطن وكيف أنه رافضا العودة مثل أبويه اللذين عاشا عمرهما فى حى شبرا يمتلكان واحدا من أقدم محلات البقالة هناك، وعندما يأتي حديثه عن أبويه يتذكر أيام وسنين وحكايات وعلاقات طواها الزمن إلا أنها لاتزال تترك أثرا فى القلب محفور وبقايا حنين لكل ذكرى تركت فى بقعة من بقاع المحروسة، وتهاجمه الذكريات بصورتها حبه الأول ناتالى نصف اليونانية التى حاربت الدنيا كلها من أجله واستطاعا معا أن يقفا فى وجه كل من لم يرد لهما الاستمرار وارتبطا وعاشا معا إلا أنها لم تنجب وكان لهذا القدر أثر سيء عليها حاول جاهدا أن يمحيه ويؤكد لها أنه يحبها ولايريد من الدنيا كلها إلا هى فقط، وعبثا حاول أن يثبت لها أنها عالمة بالكامل لن يزيده أبناء.

كما لم ينقصه عدم وجودهم، وبين إصرارها على إرضائها بالإنجاب وسعيه لإثبات أن هذا الإصرار لا يعنيه اختفت ناتالى ولم يعرف لها مكانا ولا عنوان وكلما سعى فى البحث عنها عاد بألف إجابة وإجابة كلها مجرد اجتهادات وليس تأكيدات ويعيه البحث ويقتله الحنين ويشير عليه الكل بترك مصر عله يشفى من جراحه ويستجيب لإلحاحات الكل عليه إلا أبويه الرافضين تماما مجرد ترك وطنهم كما كانوا يقولون ويتفاخرون به فقد كانت رحلتهم إلى اليونان شهر كل سنة أما عالمهم وموطنهم الأبدى فكانت مصر.

لم يكن ديمترى يعلم شعور أبويه تجاه مصر إلا عندما استجاب لمشورة أصدقائه وحزم أمره وسافر إلى الغرب ورمى نفسه رميا فيه حتى ينسى حبه ووطنه ومع الوقت استطاع أن يتأقلم مع جروح قلبه إلا أنه التهب بشوقه لوطنه وأصبحت كل حياته مقارنات بين وطن يعيش فيه وآخر يعيشه ويتنقل به.

كل لحظة فى هذا البلد تعيده إلى الوطن، كل سلوك يجبره على مقارنته بسلوك فى الوطن وتعامل أهله معه، كل شيء يعيده إلى شيء لا يستطيع وصفه بداخله محتوى كل ما فيه فى كلمة هى مصر، ومن أجل أن يعرف ما هذا الشىء المهيمن عليه اتصل بأبويه باكيا وجاء ردهما بكلمة (عد) وعاد إلى قاهرة المعز ومن يومها وهو هادئ البال سعيد بمصريته مفاخرا الكل بحب لا يموت ولا ينتهى بميراث أبويه اللذان أصرا أن يدفنا هنا فى تراب هذا البلد ويذكر أن أبويه قبل موتهما الذى كان من عجائب القدر فقد ماتت أمه صبيحة يوم جمعة وتبعها أبيه فى عشية نفس اليوم ودفنا معا فى أول نسمات يوم السبت، يذكر أن أبويه قالا له وهما يضحكان لما تزهق أو تزعل أو تفرح متنساش تحكى وتشكى لمصر.

ولأول وهلة ظن أنهما يمازحانه إلا أنهما أخذاه إلى هذه الغرفة وكشفا عن هذا التمثال، والتزم هو بالعهد وكان يقدم كل يوم طقوس تعارفه وتآلفه مع وطن امتزج بكل مافيه وأصبح يزداد حبه بقدر كل المقاييس الحسابية والكمية حتى أنه كان يضحك لمجرد أن ترد على ذهنه فكرة مقياس حبه لمصر هل يناسبها كيلو جرام أم أمتار؟ وكانت تأتيه الإجابة بابتسامة أبويه وهما يقولان لو حد سألك قول أنا مصرى يونانى...
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط