حين كنت طالبا في كلية الطب، كنت أتفحص القلب وأتأمل جداره وغرفه الأربع من الداخل والخارج وأتساءل: أين مكان التقوى؟ أين مكان الحبيب؟ هل من القلوب ما هو أبيض أو أسود؟ كيف تصيب القلب سهام الحب فينزف ويتقطع؟ وهل صحيح أن نارا قد تتوهج فيه أحيانا؟ لا جواب.. وما يزال الجدل مستمرا إلى يومنا هذا حول طبيعة هذا القلب النابض في صدورنا، هل هو صاحب قرار، أم أنه مسير وتأتيه الأوامر من مكان آخر؟.
والحقيقة أن ما يتعلمه طلبة الطب في كل دول العالم عن القلب يختلف تماما عن الصورة الراسخة في أذهان الناس عنه، يقال للطالب إن القلب عضو عضلي ينقبض وينبسط، يستقبل الدم ويوزعه، له شرايينه التي تغذي جداره، ويعمل بكهرباء يمكن رصدها بأجهزة حساسة تحولها إلى مخططات، ويقال له أيضا إن من أمراضه الهبوط والذبحة وعيوب الصمامات والارتشاح والتشوهات الخلقية، وأن القلب يمكن نقله من شخص إلى آخر.. هذا موجز ما يدرسه طالب الطب مع تعليمات ونصائح لعلاج كل مشكلة.. يتخرج الطالب ويبدأ ممارسة مهنة الطب ويتعامل مع القلب وكأنه يتعامل مع محرك سيارة.
ورد ذكر القلب في القرآن الكريم في 131 آية، كلها تفيد بأن القلب مكان التقوى والبصيرة والعقلانية، وأنه مركز الحب والكراهية والإيمان والكفر: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" (الحج 46)، "لهم قلوب لا يفقهون بها" (الأعراف 179).
هذه النصوص تشير إلى أن القلب الذي يبصر ويفقه ويعقل مكانه في الصدر، والتزم الإمام الشافعي حرفيا بنص الآيات وقال إنه في الصدر حصرا، إلا أن فقهاء كبار غيره ومنهم أبي حنيفة رأوا أن هذا المعنى مجازي وأن القلب الذي يفقه ويعقل موجود في الدماغ، وبعد قرون ومع تطور علوم الطب والتشريح، تبين أن هذا الرأي الأخير هو الأصح، بعد أن ثبت أن القلب النابض في صدورنا ما هو إلا واجهة تنفذ أوامر تأتيها من مكان آخر، ويمكن إزالته واستبداله دون تغيير في شخصية المنقول إليه.
ورغم ذلك، لا تزال هناك فئة قليلة من علماء الغرب "شافعية" في هذه النقطة ويميلون إلى إعطاء القلب دورا أكبر من كونه مضخة، ويقولون إن عضلة القلب تحتوي على خلايا عصبية "شبه الدماغية" وخلايا هرمونية، وله مجال كهرومغناطيسي واسع، وأن القلب يبدأ النبض في الجنين في اليوم 29 سابقا المخ الذي يبدأ عمله كهربائيا (أو رسميا) في اليوم الـ 90، لكن ترد الغالبية العظمى على أن كل هذه الإمكانات الواسعة للقلب ضرورية لتسيير عمله كمضخة جبارة لا أكثر، تعمل ليل نهار ولعشرات السنين.
ولأن هذا القلب النابض في صدورنا أمين في نقل وترجمة كل ما يصل إليه من إيعاز، ألهم الأدباء والشعراء فكتبوا عنه الكثير.. قال شاعر "لو قربوا النار من قلبي لأحرقها"!، وقال آخر قتلته عيون وأصابته بالشلل: "إن العيون التي في طرفها حور قتلننا.. يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به"، فهل هذا صحيح؟، هل يمكن أن تشتعل النار في صدر شخص، وهل يمكن لعيون أن تقتل شخصا أو تصرعه أو تصيبه بالشلل؟ نعم.. ممكن، وإن ظن الكثير أن هذا غير ممكن.. لقد ثبت أن القلب الحقيقي (الذي يوجد في المخ) يمكنه القيام بأعمال تدميرية على صاحبه، فكم من صدمة عصبية أنهت حياة إنسان، أو أخرسته عن النطق لأيام وشهور، أو أصابته بشلل في الحال.. يتأثر الشخص بخبر أو يدخل في مشادة أو يرى "عيون" فيحدث عنده زخم هائل لهرمونات وإشارات كهربية في جسمه وعقله لا تحمد عقباها.
فأين هو هذا القلب الحقيقي بالتحديد وما هي طبيعته وشكله؟، معلوم أن العقل والنفس في صراع دائم فيما بينهما، والاثنان موجودان في المخ، ومحصلة الصراع بينهما هي "القلب الحقيقي"، بمعنى أن القلب الحقيقي هو "محصلة صراع" في المخ وليس عضوا مجسما بالمعنى التشريحي، بل أشبه بمركز اتصالات يرسل المواقف النهائية من المخ إلى القلب النابض في الصدر لإعلانها، ورحج علماء الغرب كرة صغيرة في قاع المخ تسمى "لوزة المخ" "amygdala" كمركز رئيسي لهذه الاتصالات.. أما عن رد الفعل عند المفاجأة، فغالبا ما يكون سريعا ودون الرجوع إلى منطقة اتخاذ القرار في ناصية المخ.
خلاصة القول إن القلب الحقيقي يوجد في المخ، وهو الذي يحرك القلب النابض في الصدر من خلال العصب الدماغي العاشر وشبكة كثيفة من الأعصاب الودية المتشابكة حوله توجهه كيف تشاء صعودا وهبوطا، وبإمكانه -أي القلب الحقيقي- إسكات القلب النابض مع صاحبه في أية لحظة.. وإلى الأبد.