في مخ كل إنسان جزء من الذاكرة يسمى العقل، لا يجامل ولا ينافق ولا ينساق وراء العواطف، ذلك الجزء الذي يحفظ جدول الضرب على سبيل المثال ويتعامل مع فروع الرياضيات بأنواعها، ولا يتكلم إلا الصواب، ولا يقبل بأي حال أن يكون مجموع 1+1= 3 ، ويؤكد أن ذلك مستحيل، ويأتي بالأدلة... شرط أن تكون المعلومة قد سبق تعلمها وخزنها عنده من قبل، ويتم تخزين المعلومات فيه بطريقة موحدة عند كل الناس، ومن لم يسبق له تلق المعلومة لا يمكنه الإجابة عليها.. وتقاس قدرات العقول بطرق كثيرة جدا (موحدة أيضا)، أبرزها وأشهرها اختبار نسبة الذكاء العالمي ( IQ )... هذا هو العقل ومكانه على قشرة السطح الخارجي للمخ الأمامي.
وهناك جزء آخر من قشرة المخ على جانبيه الأسفل والأوسط يخزن ذاكرة من نوع آخر "ذاكرة النفس والعواطف"، التي تستقبل وتخزن معلومات جنبا إلى جنب مع ذاكرة العقل، بل وتشترك معها في بعض المناطق في المخ، لكن تنفرد بخصوصية مخزوناتها وتنفرد أيضا بدخول عصب الشم فيها مباشرة لعلاقته الوطيدة بطبيعة أنشطتها.. منطقة النفس في المخ، بخلاف منطقة العقل، لا تعمل بمقاييس موحدة عند كل الناس ، ولا يتشابه شخصان في مخزونها وعملها، بل ويمكن تشبيه اختلاف مخزونها من المعلومات باختلاف بصمات الأصابع بين البشر.
النفس تختلف عن العقل في نظرتها للأمور كما أن أمراضها أعقد وأخطر من أمراض العقل...النفس لا مانع عندها أن يكون 1+1 = 3، تكذب وتجامل وتنافق وتختلق الأعذار وتعتدي وقد تقتل، وأثر العقل عليها متأرجح، فقد يستطيع التحكم فيها وقد لا يستطيع، بل وكثيرا ما تتحكم هي فيه.
المحصلة النهائية لهذا الصراع بين العقل والنفس هي "القلب الحقيقي" الذي سيظهر في النهاية إلى العلن من خلال القلب النابض في الصدر ومن خلال السلوك العلني، وهي المحصلة نفسها التي ترفع صاحبها عاليا بين أقرانه، أو تبعث به مقيدا إلى السجن أو إلى مستشفى الأمراض العقلية، أو تقضي عليه.. وكما تقاس قدرات العقل من خلال اختبارات معينة كما ذكرنا، تقاس حالة النفس باختبارات أخرى خاصة بها ويمكن بواسطتها اكتشاف مشاكل النفس وأمراضها بسهولة.
يدخل جماعة في مطعم فيطلب كل واحد منهم طعاما يختلف عن الآخر، ونفس الشىء يحدث عند اختيار الأغاني (ما يطلبه المستمعون)، واللوحات والمناظر الطبيعية والذكريات التي ترتبط بأغنية أو برائحة معينة، إذ كثيرا ما يشم الإنسان رائحة فيتذكر معها موقفا أو مكانا اقترن بها لعشرات السنين، أو يسمع أغنية فتجر عليه ذكريات بعيدة وشجون.
أحاسيس تؤثر في صاحبها بعمق، وقد تصل به إلى حد البكاء، لكن لا معنى لها عند غيره، وهي أيضا التي تجعل كل شاب ينجذب إلى فتاة بعينها.. ولو كانت ذاكرة النفس والعواطف رياضية صارمة كذاكرة العقل، لاشتهى كل الناس أكلة واحدة، وطلبوا سماع أغنية واحدة، وتنافس الشباب جميعا على فتاة واحدة. لكنها حكمة الله البالغة في تنوع واختلاف أحاسيس ورغبات البشر من خلال منظوماتهم النفسية والعاطفية ومخزونها من الذكريات.
عند الولادة يكون المخ خاليا من المعلومات عدا بعض الأفعال العصبية المنعكسة التي تحمي الوليد، كان قد اكتسبها وهو في داخل الرحم.. بعد الولادة تبدأ عملية إدخال المعلومات إلى مناطق ذاكرته في المخ شيئا فشيئا، وتستمر تباعا إلى آخر العمر، .. بشكل عام، العقل تبنيه المدارس والكتب، أما النفس فتبنيها المواقف والتربية.
المخ يشبه الكمبيوتر في عمله (أو الأصح أن الكمبيوتر يشبهه)، لكن الكهرباء التي يعمل بها مخ الإنسان لا تحرق ولا تصعق، لأن غاية جهدها كسور من الألف من الفولت. مفاتيح إدخال المعلومات إلى العقل البشري هي الحواس الخمس: السمع والبصر والذوق والشم واللمس، تدعمها بعض الأحاسيس الأخرى العميقة التي تأتي من داخل الجسم، قد نشعر ببعضها كالإحساس بالجوع والعطش أو لا نشعر ببعضها الآخر لكنه مهم في ضبط موازين الجسم دون علمنا.
وقدر العلماء حجم ذاكرة المخ البشري بـ 2.6 مليون جيجابايت، وهذه السعة تستوعب كل ما يبثه تليفزيون مفتوح لمدة 300 سنة، ولا يمكن للشخص أن يملأها مهما طال عمره، كما أكد باحثون أن الذالكرة لا تمحى، لكن الصعوبة في كيفية استحضارها من مخابئها.
بعد هذه المقارنة السريعة بين العقل والنفس وتوضيح طبيعة الاختلاف الذي أدى إلى الصراع الحتمي بينهما، نعود للتذكير بأن مصائر الأفراد والشعوب وحركة التاريخ كلة، متعلقة بل ومرهونة بنتيجة هذا الصراع .