عبر التاريخ، ومع كل حضارة ظهرت على وجه الأرض، برز فلاسفة ومفكرون عديدون لم يخلُ واحد منهم من كلام في الروح والنفس الإنسانية من أبرز من كتبوا عن الروح بإسهاب كان الفقيه ابن القيم الجوزية (المتوفى عام 752 هـ) في كتابه "الروح" حيث ذكر عبارة في غاية الأهمية نصها: "إن علاقة الروح بالجسد لا تخلو من ثلاثة أحوال: لابسة لجميعه من خارج كالثوب، أو منتشرة في كل الجسم، أو في موضع واحد كالقلب أو الدماغ".
ولو تأملنا نظرية ابن القيم هذه وربطناها بمستجدات الطب الحديث الواقعية ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين، وضمن حدود "العلم القليل" الذي أوتيناه ونصت عليه الآية الكريمة (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (الإسراء 85)، يمكننا تقليص فرضياته كلها إلى واحدة فقط على النحو التالي: كون الروح تغطي الجسم كله من الخارج أو منتشرة في كل أجزائه تتعارض مع عمليات بتر أجزاء الجسم بكل أنواعها جراء الحوادث والأورام، أو نقل الأعضاء من أشخاص وزرعها في آخرين.
وإمكانية وجود الروح في القلب مستبعدة أيضا بعد نجاح نقل القلب من شخص إلى آخر دون خروج الروح، ووفق "نظرية الاستبعاد" التي صاغها لأول مرة كاتب المقال في كتابه "الروح والطب الحديث" (طبع وتوزيع دار المعارف 2015)، مفاد هذه النظرية أنه "إذا كان 99.9 % من أجزاء الجسم خدمية يمكن الاستغناء عنها أو تعويض وظائفها بأجهزة (بما فيها القلب والرئتين والكليتين والقناة الهضمية بأكملها وكل الأطراف الأربعة)، دون خروج الروح.
وهذه حقائق طبية مسلم بها، فإنه باستبعاد أجزاء الجسم الواحد تلو الآخر، سيبقى قي النهاية جزء صغير لا يمكن الاستغناء عنه أو نقله أو تعويضه أو الحياة بدونه، يقع ضمن جذع المخ عند "القفا" حيث مركز النشاط ومركز النوم، وهو آخر نقطة تموت في الإنسان، وهو مكان الإعدام شنقا.. فقد أنه يعني الموت المحتم.. جزء صغير لكنه حاسم، وزنه لا يزيد عن 15 جم، معه تبقى الروح ويبقى الإنسان، وبدونه لا تبقى الروح ولا يحيا الإنسان.
آخر نقطة تتمسك بها الروح علميا وفق هذه النظرية، هي التركيب الشبكي (أو أحد مراكزه) في جذع المخ هذه النظرية تؤيدها الآية الكريمة من سورة الواقعة التي وصفت اللحظات الأخيرة في حياة الإنسان بوجود الروح في الحلقوم: ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴾ (الواقعة : 83)، والحلقوم هذا يقع أمام التركيب الشبكي مباشرة، والمسافة بينهما لا تزيد على السنتيمتر الواحد، وذكر الحلقوم تحديدا في الآية لأنه الأقرب إلى المكان والأقرب إلى فهم العامة. وفي هذا المكان أيضا، تطلق الحنجرة آخر أصواتها فيما يعرف بحشرجة أو غرغرة الموت.. كل هذه الأوصاف تؤهله ليكون المكان المرجح لتواجد الروح في الجسم ومركز سيطرتها على الجسم كله.
أما طبيعة الروح أو شكلها فيصعب التكهن به حاليا، لكن بالعودة إلى الطب الحديث أيضا، فلا بد أن يكون للروح علاقة وطيدة ببصمة الحمض النووي للشخص، فهي التي تحكم وتقود نموه تلقائيا داخل الرحم من خلية أمشاج واحدة إلى طفل كامل، وعليها كل أوصافه وأصل تصرفاته وسجل حياته كلها بعد أن يخرج إلى الدنيا وإلى أن يموت، وهي التي تبقى على الأرض من الإنسان بعد وفاته ولا تبلى، وأمكن فك رموزها وقراءتها من موتى بعد مرور ملايين السنين على وفاتهم، وسيبعث منها الإنسان يوم القيامة كما ورد في الحديث الشريف في صحيح مسلم "كل ابن آدم تأكل الأرض إلا عجب الذنب، منه خلق وعليه يركب"، و"عجب الذنب" قطعة كحبة الخردل عند نهاية العصعص بها نسخة محفوظة من بصمة الحمض النووي، يبلى كل شىء في الإنسان إلا هي، ويبعث منها يوم القيامة كما أخبر بذلك الحديث النبوي.
نقطة أخرى ذات صلة نود الإشارة إليها في هذا السياق وهي أن الفقهاء اختلفوا حول تعريف كل من النفس والروح، فريق رأى أن النفس هي الروح، وفريق قال إن النفس غير الروح (وهو الأصح في نظرنا)، لكن هذا موضوع أكثر تعقيدا وسنفرد له مقالا آخر في فرصة أخرى بعون الله.
وختاما، نرى أن هذه الأفكار الجديدة التي أوردناها عن الروح في هذا المقال ستفتح آفاقا جديدة وتعطي دفعا وحافزا كبيرا للبحث العلمي في هذا الاتجاه، وستساهم أيضا في حل إشكالات فقهية كثيرة استجدت مؤخرا، وتواجه علماء الطب وعلماء الدين على حد سواء.