من الحكومة للشعب.. عايزين مترجم

قد يخيل للبعض انني سأهاجم الحكومة في هذا المقال، لكن الواقع انني أشفق على الحكومة.
فالذي يقترب من قمة العمل الحكومي يعلم جيدًا أنهم يعملون على عدة محاور في ذات الوقت، وهو ما لم يفصحوا عنه، بل ويعطي انطباعا أنهم لا يعملون بالمرة أو يعملون في الخفاء.
فعلى سبيل المثال.. من يحاول من أعضاء الحكومة أن يطبق فكرة معينة من شأنها تحسين أداء الاقتصاد المصري، فإنه سيصطدم بواقع مرير، ألا وهو أنه سيبدأ تلك الفكرة من البداية، بمعنى أنه لا يوجد أرضية يبني عليها من الأساس، ويجعله يتساءل ماذا كانت تفعل الحكومات المصرية السابقة، وهو الأمر الذي يرسخ فكرة أن النظام المؤسسي لا يعرف طريقًا في مصر.
لذا دائمًا ما تتعاقب الحكومات في مصر، وكل منها تبدأ من الصفر، وما أن تطأ قدمها الدرجة الأولى من السلم التنموي يكون قد حان وقت تغييرها، لأن الشعب قد فاض به الكيل ولم يعد قادرًا على التحمل أكثر من ذلك، وهكذا تتعاقب الحكومات وكل منها يحاول الوصول إلى الدرجة الأولى دون مهلة على الصعود للدرجات التالية من السلم التنموي.
فنجد حاليًا بعض من السادة أفراد الحكومة يحاربون في الخفاء من أجل وضع أرضية للبناء المؤسسي كان يجب أن يتم بنائها قبل ذلك بعشرات السنين، كما يعملوا على تحقيق التنمية الحالية محاولين المساهمة في رفع المستوى الاقتصادي للشعب ومن ثم الدولة، وفي ذات الوقت يحاولوا وضع أسس مؤسسية واضحة لمن سيأتي بعدهم، ليستطيع أن يكمل البناء، لا أن يبدأ من الصفر كما بدأوا هم الطريق.
تلك هي خطوات بعض أفراد الحكومة الحالية التي لم يتم ترجمتها، ومن ثم تحتاج إلى مترجم ينقل نبضها إلى الشعب ليكون على قدر وافر من المسئولية والدراية بتلك الخطوات.
كذلك أحد النقاط التي أثارت انتباهي هي الأحاديث الصحفية لأفراد الحكومة أو أمام وسائل الإعلام المختلفة، فنجدهم يتحدثون بالمصطلحات التي اعتادوا التحدث بها، سواء أثناء دراستهم أو عملهم السابق قبل الانضمام للوزارة، أو عملهم الحالي بعد الانضمام لصفوف الوزارة.
ولم يأخذوا في اعتبارهم أن معدل الأمية بين سكان مصر (10 سنوات فأكثر) يصل إلى 29.8% من إجمالي سكان مصر وفقًا لبيانات عام 2016، في حين أن من يقرأ ويكتب فقط تصل نسبتهم إلى 12% من إجمالي سكان مصر، أما النسبة الأكبر من سكان مصر فينتمون إلى التعليم أقل من المتوسط والمتوسط، وتصل نسبتهم إلى حوالي 46%، أما التعليم فوق المتوسط والجامعي فتصل نسبتهم إلى 11% من سكان مصر، والدراسات العليا وحملة الماجيستير والدكتوراة فتصل نسبتهم إلى 0.2% فقط.
فالحكومة تتحدث بلغة 0.2% فقط من سكان مصر، وتتجاهل لغة 99.8% من إجمالي السكان، وهو ليس خطأ الحكومة الحالية وإنما تراكمات لأخطاء أعوام وأعوام سابقة.
وأنصح الحكومة بأن يخوض أفرادها بأنفسهم تلك التجربة وذلك للتأكد فقط، أنصحهم أن يتم توجيه تلك الأسئلة إلى أي مواطن عادي، وليكن السائق الشخصي، أو الشخص الذي يقدم القهوة الصباحية فهو حتمًا سينتمي إلى أحد شرائح نسبة الـ 99.8% من الشعب المصري:
- تعرف ايه عن التنمية المستدامة؟
- طيب كلمني كدة عن التنافسية ووضع مصر العالمي منها؟
- طيب ايه رأيك في "ريادة الأعمال"، و"ليه ما جربتش تكون رائد أعمال"؟
- "طيب تقدر تقولي الفرق ما بين أذون الخزانة والسندات"، وأهمية إصدارهما؟
ومن خلال نظرة الرجل وما تحمله من العديد من المعاني، ستدرك الحكومة منها "إننا فعلا محتاجين لمترجم ما بين الحكومة والشعب".
فتلك هي لغة الحكومة التي تتحدث بها بالفعل، ويتبعها الإعلام بكافة وسائله.
فقد استوقفتني حملة إعلامية تتبناها أحد أشهر القنوات الفضائية، وتقدمها المذيعة الأشهر في الوسط الإعلامي المصري، وترتبط "بريادة الأعمال"، الفكرة جيدة، لكن كلمة "ريادة الأعمال" نفسها قد لا تكون مفهومة أصلا للغالبية العظمى من سكان مصر، وبالتالي ستفقد تلك المسابقة الهدف منها، وهو التشجيع على إقامة المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
فما نحتاجه هو "متحدث جماهيري"، يكون على دراية بالخطوات الحكومية، وفي ذات الوقت يمتلك قدرا وافرا من القبول، والقدرة والمهارة العلمية والعملية التي تمكنه من نقلها للمواطن المصري العادي دون عناء، كي يتعرف على الجهود الحكومية الحالية، بدلا من كون الحكومة غارسة في وادٍ، والمواطن في وادٍ آخر يسب ويلعن في أدائها، وينجرف وراء الاشاعات، ويضغط من أجل إحداث التغيير الحكومي.
وأخيرًا أعلم جيدًا أن الحكومة المصرية الحالية تضم ما بين كوادرها من يحملون أرقى الشهادات المعترف بها دوليًا، ويعملون قدر المستطاع على ضم أفضل الكوادر إلى صفوفهم من أطقم فنية مساعدة، لكن للأسف الشديد لا يحققون الاستفادة المرجوة، فإذا نجحوا في التوظيف الأمثل لمن حولهم لكان الوضع أفضل من ذلك بكثير، أو على الأقل أفضل مما نحن عليه.