تعرضت فى مقالى السابق (الدواء والمريض الحائر)، حول زيادة أسعار الدواء إلى التكلفة الحقيقية للأدوية , وكيف أن قرار السيد وزير الصحة الخاص بزيادة أسعار الأدوية كان هناك ما هو أفضل منه , وفى مقالى هذا سوف نستعرض سويًا كيف كان بالإمكان زيادة أسعار الأدوية على مراحل بصورة أفضل , بما يحقق التوازن بين مصلحة المريض ومصلحة شركات الأدوية .
فالقرار السابق من الناحية النظرية كان من المفترض أن يؤدى إلى زيادة أسعار 15 % فقط من الأدوية , ولكن من الناحية العملية أدى إلى زيادة الغالبية العظمى من أسعار الأدوية المتداولة فى الأسواق , وسبق وأن شرحنا السبب فى المقال السابق , فما هو المخرج لهذه المعضلة فى المستقبل ؟
معروف فى عالم الأدوية أن هناك شركة متخصصة فى بيانات مبيعات الأدوية فى مصر , هذه الشركة تمتلك إحصائيات دقيقة لمبيعات كل شركة وكل دواء متداول فى الأسواق , وكان من المفترض أن يطلب السيد وزير الصحة هذه البيانات عند تحديده نسبة الخمسة عشر بالمائة من الأدوية التى سيتم رفع أسعارها بالنسبة لكل شركة , وبدلًا من ترك الشركات تختار ما يناسبها ويحقق مصلحتها فقط , كانت الوزارة تختار الأدوية التى ستزيد أسعارها , بطريقة توازن بين مصلحة المريض ومصلحة الشركات المنتجة أو المستوردة للأدوية , هذه نقطة .
ونقطة أخرى وهى أن التسعيرة الجديدة لم تفرق بين دواء تم تسعيره منذ ثلاثين عامًا وبين دواء تم تسعيره خلال هذا العام , فبكل تأكيد الدواء الذى مضى على تسعيره أكثر من ثلاثين عامًا كان من المفترض أن يزيد بنسبة تختلف عن الدواء الذى تم تسعيره خلال هذا العام , لكن الزيادة فى الأسعار لم تفرق بينهما , ولذا تجد أدوية كثيرة حديثة التسجيل زادت أسعارها بنسبة خمسين بالمائة مرة واحدة دون مراعاة أن سعرها مرتفع منذ البداية.
لأنه من المعروف أن الأدوية المكتشفة حديثة تكون أسعارها مضاعفة , كى تستعيد الشركات تكاليف الأبحاث التى تم إجراؤها عليها عند اكتشافها وتسجيلها وبيعها لأول مرة , ولذا فإن تطبيق نفس نسبة الزيادة فى الأسعار عليها لم يكن قرارًا مناسبًا على الإطلاق , وكان من الافضل أن تكون هناك علاقة بين سنة التسجيل والتسعير فى مصر وبين نسبة الزيادة فى سعر الدواء .
فعلى سبيل المثال لو لدينا دواء تم تسعيره فى مصر عندما كان سعر الدولار ثمانون قرشًا فى الثمانينيات , ودواء آخر تم تسعيره فى مصر عندما كان سعر الدولار ثمانية جنيهات العام الماضى , فإن تكلفة الخامات على دواء الثمانينيات أعلى عشر مرات من تكلفة الخامات على دواء العام الماضى , وبالتالى كان من الطبيعى أن يتم زيادة سعر دواء الثمانينيات بنسبة أعلى عشر مرات من نسبة زيادة سعر الدواء الجديد , وليس المساواة بينهما فى نسبة الزيادة .
ولذا كان من المنطقى أن يتم زيادة نسب الأسعار بناءً على سنة التسجيل والتسعير وليس بناءًا على سعر الدواء فقط لا غير , لأن الزيادة بناءً على سعر الدواء لم تحقق سوى مصلحة الشركات فقط لا غير لأنها اختارت ما يحقق لها أعلى الأرباح , سواء كان بسبب نسبة التوزيع العالية للدواء الذى اختارته لزيادة سعره , أو بناءً على نسبة ربحيتها من هذا الدواء الذى اختارته للزيادة .
ومن هنا أتمنى , ولا نملك فى هذا البلد غير التمنى , أن يتم مراعاة ذلك عند تطبيق المراحل القادمة من مراحل الزيادات لأسعار الدواء , وان كانت المرحلة الاولى قد قصمت ظهر المريض المصرى , لأنها شملت كما سبق وان قلت الغالبية العظمى من الأدوية المتداولة بصورة فعلية .
أما النقطة الأخيرة فى مقالى , وهى وجود سعرين للأدوية فى الصيدليات , سعر قبل الزيادة وسعر بعد الزيادة , على أساس نظرى مفاده أن الصيدلى وفر الدواء بسعر رخيص ويجب أن يبيعه بسعر رخيص , ولكن من الناحية العملية فإن الصيدلى سوف يقوم بتوفير نفس الدواء من الشركات المنتجة بالسعر الجديد , أى أنه مطالب أن يبيع الدواء بسعر , ثم يعود ليشتريه مرة أخرى بزيادة خمسون بالمائة , وهو ما يتطلب منه زيادة رأس ماله خمسون بالمائة مرة واحدة , كى يحافظ على تواجد أصناف الادوية لديه.
وأرى والله أعلم ان هذا الكلام غير عملى جملة وتفصيلًا , ولن نجنى منه غير شغل الرأى العام لفترة قصيرة , والايحاء بأن الصيادلة هم المسئولون وحدهم عن الزيادة فى الاسعار , وتحميل الصيدلى عبء القرار بصورة مؤقتة, وخلق حالة من الجدال داخل كل صيدلية , كمن يعطى مسكن لمريض للايحاء له بأنه العلاج الأمثل وهو واثق من وفاته , لأنه آجلًا أو عاجلًا سيتم استهلاك كل الأدوية المسعرة قديمًا , وسيجد المريض نفسه أمام الاسعار الجديدة فى جميع الصيدليات خلال أيام أو أسابيع معدودة فقط لا غير .